محددات السياسة الروسية

03:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

عادت روسيا إلى مسرح السياسة الدولية خلال السنوات الأخيرة عبر حدثين مفصليين، الأول هو دخولها إلى القرم في أوكرانيا، والثاني تدخلها العسكري في سوريا، معلنة عبر الأول أنه لا يمكن تجاوزها في أوروبا، وأن أوكرانيا تمثل خطاً أحمر بالنسبة إلى مصالحها، أما في الحدث الثاني فدشّنت من خلاله عودة مباشرة إلى الشرق الأوسط، بعد أن كانت لاعباً رئيسياً فيه أيام الحرب الباردة، وهي عبر هذين الحدثين تؤكد من جديد على مكانتها في النظام الدولي، ورفضها القيادة الأمريكية المنفردة له.
عانت روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينات القرن الماضي غياب الدور الخارجي لها، في الوقت الذي انزاحت فيه دول كثيرة كانت تدور في فلكها نحو الغرب، وانخرطت في الاتحاد الأوروبي، وأصبحت تلك الدول على تنسيق أمني عال مع الولايات المتحدة، واحتاجت روسيا إلى أكثر من عقد حتى تعيد ترتيب بيتها الداخلي، وإعادة تدوير عجلة الاقتصاد، والاستفادة من الريع النفطي لسد العجز الذي أحدثه تفكك المنظومة السوفييتية.
في المحيط الأوروبي لروسيا، تراجعت مكانة الدولة القومية، وأصبح الاقتصاد والقواسم المشتركة للديمقراطية والمواطنة وحرية تنقل الأفراد والبضائع، هي العوامل الأكثر فاعلية في علاقات الدول الأوروبية ببعضها بعضاً، لكن أوروبا بقيت خارج الانخراط في السياسات العالمية، تاركة للولايات المتحدة لعب دور القائد، في الوقت الذي بقيت فيه الصين مهتمة بتوسيع أسواقها عبر العالم، من دون رغبة جدية في أخذ دور عالمي، متجنبة بذلك مواجهات غير ضرورية مع الولايات المتحدة.
أحرز صناع القرار في الكرملين نجاحات مهمة بالنسبة لتماسك البنى الداخلية، متجاوزين أزمات عدة كانت محط تساؤل بعد انتهاء الحرب الباردة، وقد شكّل التماسك الداخلي أحد عوامل الطمأنينة التي بنت عليها روسيا عودتها إلى الساحة الدولية، مع إصرار قوي على إعادة الاعتبار للعامل القومي الروسي، وهو ما يشكل عامل حماية بنظر الروس من الذوبان في أوروبا، أو التحول إلى مجرد تابع لواشنطن، ما استدعى بطبيعة الحال تعزيز مساحة اللعب على التناقضات الدولية.

وفي السلوك الروسي المعتمد على تعزيز الهوية القومية يكمن رفض شديد للهيمنة الأمريكية عبر العولمة، ورفض لفكرة القيادة المنفردة، خصوصاً مع فشل النظام الدولي في التحول إلى نظام متعدد/شبكي، الذي ترك فراغاً ملحوظاً في هذا النظام، والحاجة الملحة إلى من يملأ هذا الفراغ، ويعيد التوازن إلى رسم السياسات الدولية، ما أعطى روسيا حافزاً قوياً في ظل غياب منافسين راغبين في الانخراط للقيام بهذا الدور.
إن ترميم الهوية القومية لروسيا والنهوض بها من جديد يتطلب إعادة رسم دور المؤسسة العسكرية، واستثمارها في رسم مكانة روسيا الخارجية، وهي المؤسسة التي لعبت دوراً رئيسياً في مكانة الاتحاد السوفييتي على مدار عقود من وجوده، وكان لا بد من إيجاد تعبيرات مكافئة موضوعياً لمكانة هذه المؤسسة، وقد وفّرت أزمتا أوكرانيا وسوريا فرصة سانحة لإبراز دور المؤسسة العسكرية، وقدرتها على إعطاء روسيا مساحة مناورة جديدة ومهمة على مسرح العلاقات الدولية.

لقد التقطت روسيا الأهمية التي سيوفرها لها التدخل العسكري في سوريا، مستفيدة من انكفاء إدارة أوباما عن الشرق الأوسط، ومن ترددها في حسم ملفات مهمة، وحاجة جميع الأطراف إلى لاعب خارجي يقوم بدور الشرطي، ويحدد توازنات القوة في المنطقة، وقد نجحت إلى حد بعيد في فرض هذا الدور، ومحاولة تعزيزه عبر بناء تحالفات ثنائية، متعددة المستويات، أهمها الأمن والاقتصاد.
وعلى مستوى مجلس الأمن، فقد سعت روسيا خلال السنوات الماضية إلى التمسك بمبدأ سيادة الدول، وهو أحد المبادئ المؤسسة لنشوء الأمم المتحدة، وهي بالتالي تعلن تمسكها بالمشروعية الدولية، والتحرك من داخلها، وهو ما يتيح لها المناورة من خلال مجلس الأمن، والإيحاء بأنها تقف إلى جانب استقرار الدول، ومنع اللعب بالخرائط، بغض النظر عما إذا كانت مآلات الأمور ستذهب نحو هذا المنحى أم لا.
وعلى الرغم من كل المحددات التي تنطلق منها روسيا لاستعادة دورها في النظام الدولي، عبر تعزيز الهوية القومية، واستعادة دور مؤسستها العسكرية في تحقيق مصالحها الاستراتيجية، والتمسك بالشرعية الدولية، وملء الفراغ الأمريكي، واللعب على التناقضات، إلا أن أهم محدد للسياسات الروسية يبقى الاشتراك في وضع اليد على منابع الطاقة، والتحكم في تدفقها، والبقاء في موقع متقدم في هذا الملف الحيوي، وقد وجهت عبر تدخلها في أوكرانيا رسالة مهمة إلى أوروبا في هذا المجال، كما ستتيح لها عودتها إلى المتوسط أن تكون لاعباً مهماً في ثرواته من الغاز والنفط.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"