مسارات الهيمنة الأمريكية

03:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

هناك قناعة في الغرب بأن الولايات المتحدة لا تعي ذاتها كأمة خارج سياق الهيمنة والسيطرة بمختلف أشكالها على العالم، إذ إنه، وفضلاً عن سعيها المحموم من أجل المحافظة على تفوقها الهائل في المجال العسكري، وهو الأمر الذي يؤكده حجم الميزانية الضخمة المرصودة «للبنتاجون» التي لا يمكن مقارنتها بميزانية الدول الأخرى المنافسة مثل الصين وروسيا، فقد بلغت ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية سنة 2016 أكثر من 622 مليار دولار، أي بمعدل إنفاق يومي يقدر ب1,7 مليار دولار. وبالتالي فإنه وبالرغم من الأزمات التي يعانيها المجتمع على المستوى الداخلي، والتي تجعل فئات كبيرة منه تواجه التهميش والإقصاء والبطالة والفقر، فإن الدولة الأمريكية بكل مؤسساتها وشركاتها العابرة للأوطان تحافظ منذ عقود على استراتيجيتها القائمة على هوس الهيمنة على العالم، وتتخوف بشكل مبالغ فيه من المنافسة الجدية حتى، إن كانت من داخل معسكرها الغربي.
ويؤكد الباحث لوران بلوخ، في كتابه الموسوم: «الإنترنت، ناقل قوة الولايات المتحدة»، أن الإنترنت لم يقم سوى بتعزيز السلطة المهيمنة لأمريكا على العالم، وبخاصة بالاعتماد على صناعة التجهيزات والمعدات المتعلقة بالشبكة العنكبوتية، لأن الهيمنة إذا كانت ممكنة عبر القوة العسكرية، فإنها لكي تكون مستمرة ودائمة فهي بحاجة إلى الهيمنة الثقافية والتقنية التي باتت تعتمد اليوم بشكل كبير على تطور الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي. وما يعزز من الهيمنة الأمريكية هو أن واشنطن تحتل على المستوى الثقافي، المرتبة الأولى من دون منافس من خلال صناعتها المتطورة في المجال السمعي- البصري، وفي الطيران، وفي الصناعات الغذائية والإلكترونية والمعلوماتية، ويسهم إنتاجها السينمائي بشكل كبير في تحويل النموذج المجتمعي الأمريكي إلى نموذج عالمي يدعم القوة الناعمة لواشنطن ويؤثر في التطور الحاصل في العالم، بالرغم من تناقضات هذا النموذج وعنفه البالغ وخطورته على هوية الإنسان الأمريكي نفسه.
ومن الواضح أن القدرة الفائقة التي تبديها واشنطن على التحكم في البنى التحتية المتعلقة بالمجال التقني، تتيح للإنتاج الثقافي الأمريكي انتشاراً منقطع النظير على مستوى كل أصقاع العالم، فموسوعة ويكبيديا الإلكترونية مثلاً، اشتملت حتى تاريخ 29 أغسطس/ آب 2016 على 5 ملايين و226092 مقالاً باللغة الإنجليزية، وعلى مليون و 787133 مقالاً باللغة الفرنسية، وعلى 442 ألفاً و237 مقالاً باللغة العربية، فضلاً عن المقالات المكتوبة باللغات الأخرى الواسعة الانتشار مثل اللغة الإسبانية، وهي كلها مقالات متاحة مجاناً لكل مناطق العالم التي تتوفر على شبكة الهاتف والإنترنت، وهناك مواقع أخرى تسمح بالتصفح المجاني للعديد من المصنفات الفكرية والعلمية التي كانت تحتكرها المكتبات المتخصصة في عواصم الدول المتقدمة، وهي مدعومة من طرف شركة «جوجل» التي تحرص على جعلها تتصدر محرك بحثها، الأمر الذي يسمح لأمريكا بكسر احتكار جزء كبير من المعرفة وجعلها متاحة في مناطق معزولة من الكرة الأرضية، حتى تضمن ارتباط أكبر عدد ممكن من الناس بالمنظومة الثقافية الأمريكية، وباللغة الإنجليزية التي كانت تحتكر نشر 95 في المائة من المواد المتوفرة في الشبكة مع نهاية سنوات التسعينات من القرن الماضي، وما زالت تستحوذ على أكثر من 53 في المائة، ما يتم نشره عبر الإنترنت حتى الآن.
ويضيف الكاتب لوران بلوخ، أن الخدمات التي تقدمها الشركات الأمريكية من خلال الشبكة وفي مقدمها «جوجل»، «فيسبوك»، «أمازون»، «تويتر»، «دروب بوكس».. إلخ، يكمن الجانب الأكبر من نجاحها وانتشارها في كونها متاحة ويمكن الحصول على خدماتها في كل مناطق العالم، باستثناء الدول التي تمارس عليها حظراً، مثل الصين التي تمنع بعض الشركات الأمريكية من دخول السوق الصينية لأسباب تقول إنها تتعلق بمقتضيات الأمن القومي. وعليه فإن الانتشار الواسع للشركات الأمريكية يسمح لها بأن تكون معروفة وسهلة الاستعمال، ويعطيها ذلك أيضاً صبغة كونية.
ويسهم التطور التقني الأمريكي في تحقيق سيطرة واشنطن من خلال شركاتها على القسم الأكبر من السوق العالمية للمعطيات وبنوك المعلومات، وكل شركة تحاول أن تنافسها تجد نفسها مجبرة على استخدام خدماتها من أجل الوصول إلى زبائنها على أوسع نطاق، نظراً لانعدام بدائل قادرة على تقديم ما توفره الشركات الأمريكية اعتماداً على الكفاءة التقنية نفسها.
لا مندوحة لنا من الاعتراف بأن الهيمنة الأمريكية التي تتبع مسارات متعددة من القوة التقنية والثقافية والعسكرية، ما زالت أمامها سنوات عدة من السيادة على خصومها وعلى حلفائها في الدول المتطورة، ومن مصلحة كل دول العالم مستقبلاً كسر طوق الهيمنة الأمريكية حتى تتمكن البشرية من فتح فضاءات جديدة للتقدم، لأن الأحادية والاحتكار لا يقتلان الإبداع الفكري فقط، ولكنهما يقوِّضان في اللحظة نفسها فرص التطور العلمي بالنسبة للحضارة الإنسانية برمتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"