مستقبل مصر

04:41 صباحا
قراءة 5 دقائق
لاشك في أن المصريين، شأن كل شعوب الأرض، معنيون بالتفكير في المستقبل واستدعاء المجهول، ويسيطر حوارٌ دائم في هذا الشأن على المنتديات السياسية والحلقات النقاشية، بل والجلسات العائلية، ذلك لأن مصر بلدٌ كبير وقديم وخريطة الطريق أمامه ينبغي أن تكون واضحة ومقروءة، فأسوأ ما تعاني منه الأمم هو أن تدخل في جدل ضبابي عقيم لا تدرك معه التوجهات الحقيقية لبوصلة المستقبل، لذلك سوف أمضي في السطور القادمة عبر محاولة لاستشراف المستقبل والتطلع إلى غد ينظر إليه الوطن المصري بالأمل والقلق في آن واحد، وهنا أستسمح القارئ في أن أمشي في هذه العجالة فوق الأشواك حيث دافعي موضوعيٌ بالدرجة الأولى ينشد الاستقرار لبلد ينتمي إليه ووطن يتعلق به، لذلك فإنني أطرح الأفكار التالية:

* أولاً: إن التغيير سنة الحياة كما أن التدوال هو فلسفة الكون، وأنا أظن أن رئيس مصر قد أعطى لهذا الوطن كل عمره وسوف يتواصل عطاؤه أمد الله في عمره، ولا خلاف بين المصريين، مؤيدين ومعارضين، على أنه هو حائط السد المنيع أمام محاولات استهداف مصر أو توريط نظامها أو توظيف دورها في غير صالحها، ولذلك فسوف يذكر التاريخ أن الرئيسين الكبيرين اللذين سبقاه كانت أخطاؤهما ناجمة عن بعض أفعال أقدموا عليها، أما الرئيس الحالي فسوف يكون تقويمه الموضوعي مختلفاً، إذ تأتي الانتقادات من أمور أحجم عنها ولم يغامر فيها، وتلك ميزة تحسب له ولا تؤخذ عليه كما أن الرجل تمتع دائماً بصبر طويل ولم يتصف أبداً بالتعجل في ردود الفعل، ولم يبتلع (الطعم) الذي احتوته شباك الآخرين وهم يلقون بها في مياهنا الإقليمية، ولست أعني بذلك أن العهد الحالي ليست له أخطاؤه، فأنا ممن رفضوا مبكراً محاولات التزاوج بين السلطة والثروة لتكتمل بها الحلقة الشريرة لمحاولات التزاوج الأخرى بين الدين والسياسة، ورغم ذلك كله فإنني أنظر إلى بطل أكتوبر نظرةً موضوعية شاملة وأذكر الجميع بالمأثورة العربية القائلة رب يوم بكيت منه فلما مضى بكيت عليه.

* ثانياً: إن أهم ما يعنينا جميعاً هو الانتقال السلمي للسلطة، لأن مصر لا تحتمل الفوضى الخلاقة أو غير الخلاقة، كما أنها بلدٌ مركزي عريق لا يستوعب صراعات داخلية أو مواجهات سياسية، خصوصاً أن دستور البلاد ينظم بشكل محدد إجراءات الانتقال السلمي المتحضر لرئاسة الدولة بغض النظر عن شخص القادم الجديد، وقد يحتاج الأمر إلى إعادة ترتيب أوضاع البيت وتطهير أركان الدولة من بعض مظاهر الفساد الذي حاربه النظام الحالي كثيراً مع التخلص من بعض الرموز التي تفتقر إلى الشعبية والتواصل مع الجماهير، ولست أشك لحظة في أن المؤسسة العسكرية، حامية الوطن وصمام الأمان لمستقبله، سوف تقف مع الدستور والشرعية وتحمي الديمقراطية وتكون سياج أمان لوطن يعتز بها وشعب تنتمي إليه.

* ثالثاً: يجب أن نركز على سلامة إجراءات الانتقال السلس للسلطة مع التبشير بالقيم الديمقراطية الحقيقية، فليس المهم من هو القادم الجديد بقدر ما هي شفافية عملية وصوله إلى السلطة، فالمشاركة السياسية الواسعة واحترام الدستور والانصياع لإرادة المصريين هي الأمر الفصل في تقويم عملية الاختيار، كما يجب ألا يتخذ البعض مواقف مسبقة من بعض الشخصيات لأسباب تتصل بارتباطاتهم الأسرية أو انتماءاتهم العائلية، فالعبرة بالكفاءة والنزاهة والرغبة والقدرة معاً في خدمة أعرق الأوطان وأقدم الأمم شريطة أن يقف الجميع على أرضية وطنية صلبة، لأن قيادة الأوطان تختلف عن إدارة الأحزاب أو المؤسسات أو الشركات، فالوطن معشوقٌ فريد يسيطر على العقل والقلب في وقت واحد.

* رابعاً: أظن أن فك الاشتباك بين الدين والسياسة يقتضي معالجة موضوعية وعادلة لفكر جماعة الإخوان المسلمين، المحظورة قانوناً الموجودة واقعاً، فمن غير المتصور أن ندخل كل عدة سنوات في انتخابات نيابية يتم فيها تبادل الاتهامات والتراشق بالانتقادات، فالإخوان يتهمون الحكومة بالتزوير المادي، والحكومة تتهمهم بالتزوير المعنوي لإرادة الناس من خلال التلويح بشعارات دينية تستهوي قلوب الجماهير في دولة يعرف الجميع أن المشاعر الدينية متجذرةٌ فيها، بل وملتهبة، لذلك فإنني أدعو الجماعة إلى مراجعة فكرها وأسلوب عملها، خصوصاً أن أداء أعضائها في البرلمان الأخير لم يكن لصالحهم إجمالاً، وأنا أعترف بأن من بينهم عناصر معتدلة وحصيفة ولكن من بينهم أيضاً من اعتمدوا أسلوب الصراخ الدائم والضجيج المفتعل والرفض المستمر لكل ما هو سلبي أو إيجابي متى كان قادماً من جانب الحكومة، وهو أمرٌ يسلبهم رداء الموضوعية، ويحرمهم من المشاركة الإيجابية في بناء الوطن، إنني أختلف معهم في الرأي ولكنني أتفق مع حقهم في إبدائه، فالإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: إن رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، كما أن الحضارة الغربية على الجانب الآخر من الحضارة الإسلامية تقول على لسان المفكر الفرنسي فولتير: إنني مستعدٌ أن أدفع حياتي ثمناً للدفاع عن رأي أختلف معه، وقد آن الأوان لكي تنصهر جماعة الإخوان المسلمين في بوتقة الشرعية السياسية من خلال اعترافها بأن الأمة هي مصدر السلطات، وأن تداول السلطة ودوران النخبة حقٌ لجميع القوى السياسية وليسا حكراً على واحدة منها، مع التوقف عن استخدام الشعارات الدينية في غير موضعها، فالدين شعورٌ مطلق، أما السياسة فهي أداءٌ نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وخلط الدين بالسياسة مثله مثل خلط الماء بالزيت فلا يمتزجان، والماء هنا هو شبيه الدين لأنه مطلقٌ حيوي دافق والزيت هو نظير السياسة لزجٌ يلوث كل من يقترب منه وبقعته لا تزول بسهولة، فالسياسة داءٌ لعين ومرضٌ مزمن.

* خامساً: إن الاشتباك بين السلطة والثروة، أي التداخل بين مراكز القوى السياسية وبين أعصاب الحياة الاقتصادية قد أدى بدوره هو الآخر إلى فساد في الإدارة وضعف في السياسة واختلاط للأمور، ونحن مطالبون الآن أكثر من أي وقت مضى بكسر هذه الحلقة الشريرة وفض الاشتباك بين طرفي المعادلة، وأنا بالمناسبة لست ضد رجال الأعمال الوطنيين، خصوصاً أن منهم مفكرون معنيون بالحياة السياسية وفيهم خبراء في الإدارة ومنهم رموز وطنية لا نستطيع الإقلال من قدرها، ولكنني أدعو فقط إلى تصفية ذلك التحالف غير الشرعي من أجل نزاهة الحكم وشفافية الإدارة وإفساح الطريق السليم أمام الأجيال القادمة، ولابد أن أعترف هنا بأن فض الاشتباك بين السلطة والثروة هي عمليةٌ أسهل وأسرع بكثير من فك الاشتباك بين الدين والسياسة، وبهذه المناسبة فإنني أقول إنني مع تأصيل دور الدين في المجتمع بالدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وتربية النشء والشباب على القيم الدينية الصحيحة التي تعلي من قيمة الوطن وترفع من شأن المواطنة، بدلاً من عملية خلط الأوراق التي تصيب الأجيال القادمة بالإحباط والتوتر على نحو يدفعهم إلى حالة من الضياع.

هذه أفكارٌ أطرحها من أجل حوار وطني شامل بين القوى السياسية المختلفة والأحزاب المتعددة ومؤسسات الدولة بلا استثناء، وأنا أدعو هنا إلى ضرورة تقوية الأحزاب لكي تصبح مدارس لتربية الكوادر السياسية مع دعم النقابات لتصبح مدارس لتربية الكوادر المهنية والعمالية، ودعم الجامعات لتصبح مراكز مضيئة للبحث العلمي والتقدم التكنولوجي، لذلك فإن الحوار المطلوب يجب أن يتسم بالاعتدال والموضوعية ولا ينزلق نحو طرق تفضي به إلى الهاوية، فالوطن أعظم وأغلى من العبث بحاضره أو مستقبله، خصوصاً وأننا جزءٌ من أمة عربية تنظر إلينا في إكبار، بينما ترتفع فيها أصواتٌ تدعي أحياناً تراجع دورنا حيث يغيب عنها فهم أوضاعنا لأنها ترفض القبول بسياساتنا، وعندما وقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما على منصة القاعة الكبرى لجامعة القاهرة في يونيو/حزيران 2009 فقد كان ذلك حدثاً رمزياً ضخماً يدفعنا إلى الأمام ويشدنا نحو المستقبل ويرد على أصوات نكراء تعالت ضدنا ولم تكن أمينة معنا، إنني أقول صراحة إن مستقبل مصر سوف يشارك بالضرورة في صياغة مسار المستقبل العربي والإسلامي معاً، كما سوف يعطي زخماً إيجابياً لإفريقيا والشرق الأوسط، بل وحوض البحر المتوسط أيضاً.. إن مصر التي صنعت التاريخ لابد وأن تتهيأ لصناعة المستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"