مصر: إشارات متضاربة

04:53 صباحا
قراءة 4 دقائق

أثارت رسالة الرئيس المصري محمد مرسي إلى شيمون بيريز، التي نقلها السفير المصري عاطف سالم، تداعيات عدة داخل مصر وخارجها، وبين هذه التداعيات فإن ردود فعل الناطق باسم الرئاسة ياسر علي تثير العجب . وابتداء فإن ردود الفعل هذه أربكت المتابعين للشأن السياسي المصري . وكانت الرسالة قد تم تداولها على نطاق واسع عبر الشبكة العنكبوتية يومي الأربعاء والخميس الماضيين 17 و18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وبدت غريبة لهجة الود والتقدير فيها التي فاقت حتى اللهجة المعلنة التي كان يستخدمها النظام السابق في مخاطبة الزعماء الصهاينة . على أن الأغرب من ذلك أن الرسالة جاءت خارج سياق علاقات القاهرة بتل أبيب في هذه المرحلة، التي تتسم بمزيج من الفتور والنفور .

للمرء الآن أن يلاحظ أن نشر الرسالة هو أمر غريب في العلاقات الدولية (بين الدول)، إذ إن نشر رسائل اعتماد السفراء تقليد غير معمول به بين الدول . فالرسائل من الوثائق الخاصة بالدول، وإن لم تكن على ذلك الجانب من السرية، وهي تتعلق بطرفين: المرسل والمرسل اليه لا بطرف واحد، ومع ذلك حدث ما حدث وتم تسريب نص الرسالة . لقد نفى الناطق إرسال رسالة بالنص الذي نشرت به واعتبر ذلك من باب #187;التزوير والافتراء#171;، ثم عاد للقول إن إرسال رسالة في مثل هذه المناسبة هو عُرف بروتوكولي، وأن الاعتراف قائم . إلى أن قال إن الرسالة صحيحة مائة بالمئة! وبذلك بدا الناطق كآخر من يعلم بما يدور في الرئاسة .

السفير عبدالله الأشعل الذي أمضى جُلّ حياته المهنية في وزارة الخارجية المصرية، والمرشح السابق لانتخابات الرئاسة، أوضح أن صيغة رسائل الاعتماد مكتوبة منذ مئة عام! ودون أي تغيير يذكر عليها، ولا تخرج الرسائل عن صيغة #187;نرجو اعتماد السفير في دولتكم لدعم العلاقات السياسية بيننا وبينكم#171; . . ومع ذلك تبين أن الرسالة الفخيمة قد أرسلت، وأن تغييراً قد حدث منذ غادر الدبوماسي الأشعل الخارجية المصرية، وكان مساعداً للوزير عمرو موسى آنذاك .

بالعودة إلى النقطة الأهم، فقد جاء بث الرسالة في وقت كان فيه نتنياهو رئيس حكومتهم يشدد على أن تل أبيب ترفض أي تعديل على اتفاقية كامب ديفيد . وقد بدا أن هذه المسألة هي محور علاقات القاهرة بتل أبيب في هذه المرحلة . وقد جاء نشر الرسالة للإيحاء بأن القاهرة #187;فخورة#171; بعلاقتها مع تل أبيب، وأن مراجعة العلاقة بين الجانبين هي مجرد كلام في الهواء لإلهاء بعض قطاعات الرأي العام المصري . علماً أن القطاعات المذكورة التي تضم يساريين وإسلاميين تطالب بقطع العلاقات مع تل أبيب، وتجميد العمل باتفاقية كامب ديفيد، وليس مجرد مراجعة الاتفاقية واستمرار العمل بها . وفي مجمل الأحوال فإن اضطراباً شاب الأداء السياسي والدبلوماسي في هذه الواقعة، وبات موضع تندر من المصريين، بعد أن ذهبت الواقعية السياسية بالرئاسة إلى وصف بيريز ب#187;صديقي العظيم#171; وهي مجاملات تتعدى البروتوكول وتخترق الأعراف الدبلوماسية .

لقد كان من دواعي الغبطة أن تواصلاً لم ينشأ بين العهد الجديد في مصر وتل أبيب، وهذا تطور مهم بحد ذاته، فقد كان التطبيع الرسمي قائماً على أعلى المستويات، وكانت هناك زيارات دورية منتظمة ودائمة لكل من بيريز وبنيامين اليعازر علاوة على آخرين إلى قصر عابدين . وقد #187;انقطعت رِجْل#171; هؤلاء عن التردد إلى القاهرة بعد ثورة 25 يناير . وقد لاحظ من لاحظ أن الرئيس محمد مرسي لا يأتي على ذكر كلمة #187;إسرائيل#171; في تصريحاته وخطاباته، بما في ذلك الخطاب الذي ألقاه مؤخراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما أشارت اليه صحيفة #187;يديعوت أحرونوت#171; في حينه . غير أن إرسال إشارات متضاربة ك #187;الرسالة المثيرة للجدل#171; من شأنه المساس بصدقية التوجهات وتماسك الموقف السياسي، وبالذات الموقف من إعادة النظر في كامب ديفيد، وكانت أوساط من العهد الجديد تحدثت بأن إعادة النظر في الاتفاقية ليس نقضاً لاتفاقيات دولية، بل حقاً سيادياً . وإعادة النظر المأمولة تتجه أساساً إلى تقييد انتشار قوات ومعدات مصرية في سيناء بما جعل هناك منطقة عازلة عملياً . . لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى الجانب الآخر الذي طالما انتهك الحدود البرية والجوية .

والراجح والمنطقي أن إرسال الرسالة الرئاسية سوف يسهم في مزيد من البلبلة، والايحاء بأن القاهرة لم تشق بعد طريقاً واضحة لسياستها الخارجية . وشاءت ترتيبات معينة من الطرف الآخر أن يقدم السفير الأردني في تل أبيب وليد عبيدات أوراق اعتماده لبيريز بالتزامن مع تقديم أوراق اعتماد سفير مصر لأوراق حكومته . على أن عمّان لا تطالب بمراجعة اتفاقية وادي عربة الموقعة عام 1994 خلافاً للموقف الحالي للقاهرة . وقد ثارت ضجة شعبية في الأردن ضد تسمية السفير، وإيفاده، بما في ذلك من عائلة السفير، لكن الحكومة الأردنية مضت في قرارها ونفذته ولم يأت أحد على ذكر رسالة الاعتماد، ربما لأن لا جديد فيها . . ولا جديد كذلك في علاقات الجانبين، باستثناء أن تبادل الزيارات الرسمية شهد انحساراً ملحوظاً، وكاد ينقطع منذ بدء موجة الربيع العربي حتى تاريخه .

بما يتعلق بالقاهرة بالذات فإن الاضطراب السياسي الذي لم يهدأ مُعبّراً عنه بتوالي الإضرابات والاعتصامات والمليونيات، وتزاحم الأولويات، وتكاثر مطالب الفئات والمناطق، وما يبدو من تغليب الحاجة إلى إنجازات داخلية بدلاً من تحقيق حضور ملموس على الساحة الإقليمية، ذلك كله لا ينبىء بانعطافة قريبة في سياسة مصر الخارجية وبالذات الشرق أوسطية منها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"