مصر وسؤال الهوية والانسداد السياسي

03:36 صباحا
قراءة 4 دقائق

يلفت الانتباه في الأحداث التي ماانفكت مصر تشهدها منذ أسابيع، أن اندفاعة الحراك الشعبي لا تقل في عنفوانها عما كانت عليه في موجة الاحتجاجات التي أسقطت النظام السابق . وبينما دعت الرئاسة المصرية قادة الحركات السياسية إلى سحب عناصرها من الشارع، وبالذات من حول قصر الاتحادية الرئاسي، فإنه من الواضح أن جمهرة المحتجين مختلطة ولا تقتصر على أعضاء التنظيمات السياسية مثل حركة 6 إبريل وحزب الدستور الذي يقوده محمد البرادعي وجبهة الإنقاذ وسواهم .

من الجلي أيضاً في هذه الأثناء أن الاندفاعة المتجددة تتغذى من عوامل عدة لا من عامل واحد، كالاعتراض على بنود في الدستور تعطي صلاحيات شبه كاملة لرئيس الجمهورية . أبرز هذه العوامل ضغط الواقع المعيشي البالغ الصعوبة، وهو الذي يحرّك الشبان غير المسيسين الذين كانوا يترقبون تحسن أحوالهم، أو رؤية فسحة للأمل بعد الثورة وهو ما لم يتحقق بعد . وهو ما يؤكده ضآلة عدد المعتقلين في صفوف المحتجين الذين ينتسبون إلى تنظيمات حزبية، وكذلك الأمر في هوية الضحايا والمصابين، وأكثر من ذلك فإن احتجاجات الجمعة الأخيرة، الأول من فبراير/ شباط، انطلقت من المساجد لا من مقرات أحزاب .

بموازاة ذلك، فإن ارتفاع عدد القتلى إلى نحو ستين خلال أسبوع واحد ينذر حقاً بالخطر، وذلك في ضوء تشديد القوى السلمية على سلمية الاحتجاجات، وقد وافقت على وثيقة الأزهر النابذة للعنف، وتأكيدات قوى الأمن عدم استهداف المحتجين بشكل مميت، فكيف يقع هذا العدد من الضحايا؟ ومن المسؤول بالتالي عن استشراء العنف؟ الدولة لم تقدم حتى تاريخه إجابات مقنعة، تطمئن إلى سلامة المسار السياسي والأمني في البلاد . والخشية كل الخشية هي من احتمال وجود ميليشيات مستترة لأي طرف كان، سواء الفلول أو الإخوان أو غيرهم .

في واقع الأمر، فإن البلبلة السياسية الشديدة، واضطراب الرؤية أمام الجمهور العريض، تشكل ما يشبه ستاراً دخانياً كثيفاً يتسلل منه دعاة العنف ومرتكبوه، ويسهل معه توزيع الاتهامات هنا وهناك، وهو ما تتبرع به وسائل إعلام غير مهنية، ويؤدي في النتيجة إلى تجهيل الفاعلين، وبث القلق مع الشائعات، ومع الاحتقان أيضاً في أوساط الرأي العام، وهو ما يخشاه سواد المصريين . تنعكس البلبلة على الجمهور الذي لا يتوقف طويلاً عند الخلافات الدستورية، ولكنه يتطلع إلى حل مشكلاته المعيشية الضاغطة، ورؤية سلطة تنفيذية قريبة من الناس تعمل على النزول إليهم ومحاورتهم وتقديم إجابات وحلول شافية لهم .

في منعطفات سابقة دعت الرئاسة القوى الحزبية والسياسية إلى حوار وطني، وتكرر ذلك هذه المرة في الأسبوع الأخير من يناير/ كانون الثاني الماضي . ولئن كان صحيحاً أن الحوار حاجة سياسية دائمة ومناخ ينبغي أن يسود في جميع المراحل، غير أن الحكم الصالح يتطلب اتخاذ قرارات رشيدة تعزز الوفاق الوطني، وتلبي مطالب أساسية للجمهور العريض، لا أن يتم اللجوء إلى الحوار في كل مرة تعجز فيها السلطة عن إدارة البلاد بصورة ناجعة وتتكرر أخطاؤها، وعليه لم يكن مستغرباً أن تتجدد الاحتجات بعد هذه الدعوة الرئاسية .

لقد كان من الخطأ في البداية تشكيل حكومة لا وزن سياسياً ولا تمثيل شعبياً لها في ظروف ثورية، مع تشكيل هيئة مستشارين فضفاضة لم يلبث العديد من أعضائها أن تقدموا باستقالاتهم، في وقت كانت البلاد ومازالت تشهد استقطاباً سياسياً حاداً، وتخوفاً شديداً من عودة نموذج الحزب الحاكم، ولكن الأكثر تشدداً وعقائدية هذه المرة . من هنا تكتسب دعوة المعارضة وجاهتها حين دعت إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني، تتمثل فيها بالضرورة قوى سياسية واجتماعية وازنة، تعكس روح الوفاق الوطني، وتجسد التعددية السياسية والثقافية في المجتمع، وقادرة على التواصل الحي والمباشر مع الناس، وتضع حداً نهائياً لصورة حكومة وحكم اللون الواحد (الإخواني) .

لقد اختير الرئيس حقاً بانتخاب شرعي من صفوف الإخوان وبأصوات تزيد على عشرة ملايين صوت، وليس لأحد أن يستنتج من ذلك أن جماعة الإخوان تضم مثل هذا العدد في صفوفها، أو أن اختيار شخص الرئيس ينطوي على تفويض بجعل الدولة المصرية إخوانية في رموزها وهويتها وهيئاتها ومؤسساتها .

في واحدة من اللافتات المميزة يوم 25 يناير الماضي كتبت الكلمات المعبرة الآتية: في مثل هذا اليوم من العام الماضي كنا شعباً واحداً . في قناعة المرء أن المصريين الذين يتمتعون بروح جماعية وباستبطان عميق لهويتهم الوطنية الجامعة، قد هالهم أن مصر التي تجمع بين التركيب (تكوين إفريقي، فرعوني، قبطي، عربي، إسلامي، متوسطي . .) والانسجام، باتت مهددة بصورة أو بأخرى باختزالها إلى بُعد واحد وتركيب واحد دون سواه، وهو ما يهدد النسيج الاجتماعي، ويفسد نمط الحياة السلمي والمنوّع الذي يجمع ما يبدو أنه نقائض، ومما اعتاده المصريون وتوارثوه وعاشوه جيلاً بعد جيل منذ قرون سحيقة . لسبب مثل هذا، تم وصف دعاة هدم الأهرامات بأنهم غير مصريين، وهؤلاء الدعاة ظهروا، وما كان لهم أن يظهروا إلا في أجواء حكم الإخوان .

وفي جميع الأحوال، فالواضح أن مصر سوف تعيش مخاضاً طويلاً، قبل أن يتبلور حكم وطني ديمقراطي وعصري ينقذ البلاد من وهدتها، عسى أن يتحقق ذلك بأقل كلفة وعناء وأقصر فترة زمنية أيضاً، فالمصريون يخسرون الكثير أيضاً من تعطل دورة الحياة الطبيعية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"