معضلة “أوبك”

02:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

مع تراجع أسعار النفط عن حاجز 50 دولارا للبرميل، أي بانخفاض نحو الثلثين عن أسعار شهر يوليو/تموز الماضي، توشك أسعار الخام على الاقتراب من المستوى الكارثي الذي وصلت اليه ابان الأزمة المالية الآسيوية في نهاية التسعينات من القرن الماضي. صحيح انه في العام 1998 وصل سعر برميل النفط إلى نحو 10 دولارات، لكنها بالأسعار الحقيقية قد تصل إلى 30 دولارا الآن أو تزيد. وتبدو منظمة الدول المصدرة للبترول (اوبك) في وضع قريب الشبه من تلك الفترة الآن، وسط دعوات بعض الاعضاء لخفض الانتاج فيما المنظمة مقيدة اليد في قدرتها على ضبط السوق. وان كان ما حدث في اجتماع جاكرتا الشهير قبل عشر سنوات لا يمكن ان يتكرر، اذ انه في ظل أزمة مالية هزت الاقتصاد العالمي وانذرت بتراجع الطلب بشدة قررت اوبك زيادة الانتاج مليوني برميل يوميا ما هوى بالأسعار إلى القاع.

صحيح انه من غير المتوقع ان تفكر اوبك في زيادة الانتاج الآن، بينما السوق مشبع بالخام بشكل يفوق الطلب بمراحل، لكن مجرد عدم الالتزام بالتخفيضات يساوي إلى حد ما الزيادة في تلك الفترة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية. ومع خروج المضاربين من اسواق السلع الآن بدرجة معقولة، ترك سوق الطاقة لعوامله الاساسية من عرض وطلب بالأساس ومن ثم تصبح مسؤولية المنتجين والمصدرين عن ضبط السوق والأسعار في المتناول إلى حد ما. الا ان هناك عوامل كثيرة تشكل معضلة لاوبك، وحتى للمنتجين والمصدرين من خارج المنظمة كذلك.

تدل غالبية المؤشرات الحالية على ان أزمة الركود الاقتصادي العالمي الحالية ستكون اعمق واطول من اي ازمات سابقة، وبالتالي سيشهد سوق الطاقة تراجعا مضطردا وكبيرا في الطلب، ربما يفوق كثيرا تراجع الطلب في الأزمة المالية الآسيوية قبل عقد من الزمان. وبدأت بشائر ذلك تظهر بالفعل، مع تراجع الطلب من مستهلكين كبار، فعلى سبيل المثال تظهر احدث الأرقام تراجع الطلب الأمريكي على النفط بنسبة 5 في المائة على الاقل. وأهمية ذلك ليس فقط في ان الولايات المتحدة هي اكبر مستهلك للطاقة في العالم (تستهلك ربع طاقة العالم)، ولكن لأن تلك النسبة تتضاعف اذا اخذنا في الاعتبار ان التراجع جاء في فترة موسمية تشهد زيادة بسبب فصل الشتاء، أي انه يضاف لها نسبة الزيادة الموسمية فيتضاعف التراجع.

وبدأت كافة المؤسسات الدولية، بما فيها وكالة الطاقة الدولية، تخفض توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط بالفعل ويتوقع ان يستمر التخفيض باضطراد، على الاقل حتى نهاية العام المقبل. من شأن ذلك عمليا، وعلى اعتبار أساسيات السوق، ان يجعل العرض في سوق النفط يتجاوز الطلب بزيادة مضطردة في ظل معدلات الانتاج الحالية. فبعدما كانت التوقعات للطلب قبل عام، وقبل ان يشهد العالم الأزمة المالية الخانقة ويدخل في ركود اقتصادي، يمكن ان تذهب بالطلب إلى نحو 90 مليون برميل يوميا ويزيد، أصبحت الآن في تراجع إلى نحو 86 مليون برميل يوميا وينتظر ان تهوي أكثر.

وهنا تبرز مشكلة اوبك، التي خفضت الانتاج الشهر الماضي بمعدل 5.1 مليون برميل يوميا من دون ان يؤثر ذلك في السوق. فنسبة التخفيض التي اتفق عليها لم يلتزم بها كثير من المنتجين، إلى جانب ان كمية الزيادة في المعروض النفطي تتجاوز ثلاثة أضعاف نسبة الخفض تلك. في الوقت نفسه تتعرض اوبك لضغوط من جانب الدول المستهلكة، خصوصاً تلك التي تعاني اقتصاداتها بشدة من الأزمة الاقتصادية، كي تظل تنتج وتصدر بأكثر من الطلب للحفاظ على الأسعار منخفضة ما يساعد تلك الاقتصادات على تحمل تبعات الركود والخروج منه بسرعة. لكن ذلك قد يعني استمرار تراجع الأسعار، لتصل إلى مستويات تضر بالجميع وليس المنتجين والمصدرين ودخولهم فحسب. واذا كان الحد الادنى الذي يمكن تحمله لدى اكثر دول اوبك غنى وقوة هو 50 دولارا للبرميل، فإن التراجع عنه بنسب كبيرة إلى 40 أو 30 دولارا يمكن ان يشكل كارثة حقيقية ويزيد من قتامة الصورة للاقتصاد العالمي ككل.

واذا كان هناك خلاف الآن حول موضوع خفض الانتاج، قبل اجتماع اوبك التشاوري غير الرسمي في القاهرة يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني، فإن الاجتماع الرسمي في الجزائر في 17 ديسمبر/كانون الأول لا بد وان يقرر خفضا في الانتاج على الأقل لسحب بعض الزيادة في العرض لوقف تدهور السوق. لكن هل سيمكن لاوبك ان تقرر خفضا للانتاج باكثر من مليوني برميل يوميا (وان كانت تحتاج لخفض ما يصل إلى 3 ملايين برميل يوميا على الاقل لضبط العرض) من دون ان تتعرض لحملة من المستهلكين الكبار، ترغب بعض دول اوبك في تفاديها؟

هذا هو السؤال الذي يشكل معضلة حقيقية لاوبك، عليها ان تبحث عن مخرج سريع منها والا كان نصيب دولها من الأزمة الاقتصادية العالمية اكثر سوءا من الاقتصادات التي قادت تلك الأزمة في أمريكا وأوروبا.

* محلل اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"