منطق طمأنة الأعداء والخصوم

04:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

عشية الذكرى الخامسة والتسعين لوعد بلفور احتفل تلفزيون العدو الإسرائيليعلى طريقته، فاستضاف محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية بهذه المناسبة . وكالعادة فإن عباس يحرص على مخاطبة الإسرائيليينوالأمريكيين ولا يلقي بالاً لمخاطبة شعبه، ويسعى إلى طمأنة هؤلاء بدل أن يثير الأمل في نفوس أبناء شعبه . . عباس في المقابلة حظر على نفسه الإقامة في مسقط رأسه مدينة صفد (في الجليل الأعلى شمالي فلسطين)، مكتفياً بطلب إتاحة الفرصة له لرؤية المدينة فقط .

وهو ما فهم منه إسقاطه حق العودة، وهي من الحقوق التي جاهدت تل أبيب لإسقاطها . لقد أغفل كالعادة أيضاً البعد التاريخي لمناسبة المقابلة، وهو إطلاق وعد الوزير البريطاني بلفور بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، وهو الوعد الذي أسس لنكبة شعب فلسطين والاستيلاء على الوطن الأم . وبدل المطالبة بحل سياسي تاريخييبّرئ جرح الاقتلاع والتشريد، ويُحمّل بريطانيا التي كانت تفرض انتدابها على فلسطين التاريخية، فقد قفز عن ذلك كله لطمأنة الإسرائيليينبأن دولتهم باقية بصورة نهائية وإلى الأبد#171;، وأن للفلسطينيين أمثاله أن يروا موطنهم الأم كأي زوار أو سياح، لا أن يعودوا إلى الوطن . . وهذا من حقهم، كما قال .أي أن الرجل يقدم طلب تأشيرة زيارة ويفترض أن الطلب مرفوض مسبقاً، فيناضل من أجل هذا الحق.

على أن تجمعات فلسطينية لا حصر لها في الشتات، لا تفكر بهذه الطريقة التي تعز على الوصف، فعلى سبيل المثال يستعد أحد المراكز المدنية في المهجر وهو مركز العودة ومقره في لندن، لجمع مليون توقيع لتحميل بريطانيا المسؤولية عن الخطيئة التاريخية باقتلاع شعب من أرضه، ودفع الحكومة البريطانية إلى الاعتذار . وهي خطوة رمزية ذات أبعاد سياسية وقانونية وكان يتعين الالتفات إليها منذ أمد بعيد، خاصة أن المملكة المتحدة بصرف النظر عن حكوماتها، دأبت على تقديم نفسهاعلى أنها وهي العضو في الاتحاد الأوروبي، من الدول التي تساند السلام العادل والحقوق الفلسطينية . وهذا مثال على الطريقة الفعالة والحاذقة للاحتفال بهذه المناسبة الأليمة، خلافاً لطريقة عباس الذي يبذل على الدوام كل ما تملك يمينه لطمأنة المتسببين بمحنة شعبه، على أمل أن ترقّ قلوبهم . وواقع الحال أن عباس يسعى إلى استعادة بعض هذه الحقوق، ومنها السعي إلى اكتساب عضوية مراقب لدولة فلسطين في الأمم المتحدة . تل أبيب وواشنطن ترفضان هذا المسعى رغم التنازل عن المسعى الأصلي لاكتساب عضوية كاملة في المنظمة الدولية . وما يفعله الرجل باختصار، هو محاولة طمأنة أعداء وخصوم شعبه بأنه ضعيف ولا يعتزم إلحاق أذى بأحد . فيما يرد عليه هؤلاء بلسان حال يقول: ما دمت ضعيفاً فلا تتقدم بمطالب من أي نوع ، بل اقبل بما نجود به عليك .

حين أبدى عباس رأياً قبل أيام ناصحاً نتنياهو بأن يضم تسيبي ليفني وزيرة للخارجية إلى حكومته المقبلة بعد الانتخابات، عقب ليبرمان الوزير الحالي متسائلاً: من هو عباس؟ أما ليفني نفسها موضع ثقة عباس، فكشفت خلال الأسبوع الماضي عن سجلها الحافل في خدمة الموساد، وكيف أوقعت بناشطين فلسطينيين وعلماء عرب تعرضوا للاغتيال، وأنها مستعدة حالياً لتكرار هذا الأمر لو كلفت به .

خلال الأسبوع نفسه أفرجت الرقابة العسكرية الصهيونية عن اسم قاتل جهاد الوزير (أبو جهاد، رفيق عباس في قيادة فتح) في تونس العام ،1988 والقاتل هو القائد العسكري ناحوم ليف، وقد توفي القاتل في العام 2000 في حادث سير .

وبينما تتواصل المشاريع الاستيطانية والتهويد القسري للقدس وبقية الأراضي المحتلة، فإن عباس لا يجد ما يقوله سوى أنه سيمنع اندلاع انتفاضة ثالثة . . مسلحة كما قال، وأنه يؤمن بالمقاومة السلمية .

ليس صحيحاً هذا الإيمان، فالرجل يمنع كل أشكال المقاومة المدنية ويحتجز الحركة الشعبية، ولم يكلف خاطره يوماً بالوصول إلى جدار الضم والتوسع لمشاركة المحتجين الأجانب احتجاجاتهم (رئيس الوزراء سليم فياض فعل أكثر من مرة)، وقوات الشرطة تفرق المظاهرات بالقوة كما حدث في وقت سابق من هذا العام، لمنع الوزير الصهيوني شاؤول موفاز من الوصول الى رام الله للالتقاء بالسيد الرئيس. وقد نجح المتظاهرون رغم قمع تحركهم بإلغاء الزيارة، وذلك خشية أن تشكل الزيارة شرارة لانتفاضة ثالثة تتساوق مع موجة الربيع العربي، والذي تراجع عن المسألة هو الجانب الصهيوني لأسباب أمنية، وليس الرئاسة الفلسطينية .

تتراجع القضية الفلسطينية بسبب حالة الموات السياسي التي ترعاها وتسهر عليها السلطة، وكما تذكر أوساط قريبة من الرئاسة، فإن الموقف الأحب دائماً الى قلب الرئاسة هو موقف: الانتظار!

أما التحرك الأفضل فهو على الدوام خارج الوطن وبعيداً عن الشعب بما يسمى التحرك العربي والدولي. لا يقوم الرجل بأية زيارة إلى مدن وبلدات الضفة الغربية لتفقد شعبه، باستثناء بيت لحم بمناسبة عيد الميلاد (الكريسماس)، لكنه مستعد لشد الرحال والقيام ب تحرك دولينحو نيوزيلندا أو تنجانيقا مثلاً . وتصريحاته الأخيرة لا تعدو أن تكون حلقة في مسلسل الانسحاب من النهوض بالمهمات الوطنية الملقاة على عاتقه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"