من أجل تعددية أقطاب متوازنة

03:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تبحث القوى العالمية الكبرى التي واجهت منذ التسعينات من القرن الماضي، الأحادية القطبية الأمريكية، عن بدائل جدية يمكنها أن تُسهم في خلق عالم جديد متعدد الأقطاب بشكل حقيقي لا يعمل على استبدال هيمنة قطب بقطب آخر، خاصة أن العالم بدأ يشهد ميلاد نظام جيوسياسي جديد يختلف بشكل كبير عن مرحلة الثنائية القطبية في زمن الحرب الباردة، وعن الأحادية القطبية التي باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة في سياق مشهد دولي تحاول من خلاله واشنطن، الحفاظ على ما تبقى لها من أدوات الضغط من خلال تهديد الخصوم وابتزاز الحلفاء، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالحها الحيوية. وتبدو أوروبا، في سياق هذا التنافس المحموم، أكثر الأطراف تضرراً؛ نتيجة انتقال مركز الصراع من القارة العجوز إلى شرق آسيا، بشكل بات يفرض على القادة الأوروبيين تبني استراتيجية جديدة مستقلة عن المظلة الأمريكية.
ويمكننا أن نلاحظ في هذا السياق، أن زيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى أوروبا، والتي قادته إلى إيطاليا وفرنسا، وإمارة موناكو، في الفترة ما بين 21 و26 مارس/آذار الماضي، استطاعت أن تعيد إلى الأذهان مشكلة إعادة تشكيل منظومة العلاقات الدولية التي جرى بناؤها بعد الحرب العالمية الثانية، اعتماداً على موازين قوى ترتكز في المقام الأول، على علاقة الولايات المتحدة وكندا بدول أوروبا الغربية واليابان، بدون قوى دولية صاعدة كالصين والهند وروسيا.
وبالتالي فقد حاولت الدول الأوروبية في اجتماع باريس، الذي جمع الرئيس الصيني بالرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشارة الألمانية ميركل، ورئيس المفوضية الأوروبية جون كلود جونكر، أن تتحدث مع الطرف الصيني بصوت موحد، بعد أن قامت بكين بالتفاوض مع دول أوروبية أخرى بشكل منفرد، وأقنعت دولاً وازنة في الاتحاد الأوروبي مثل اليونان، وإيطاليا، بالانضمام إلى مشروعها المتعلق بطريق الحرير الجديد، الذي تحاول من خلاله أن تعطي للاقتصاد الصيني نفساً جديداً، يتيح له تصدر المشهد العالمي على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي. وبدا واضحاً أن أوروبا بقيادة فرنسا وألمانيا، ترفض سياسة واشنطن القائمة على المواجهة مع بكين. وقد دافع الجانب الأوروبي في اجتماع باريس، عن ضرورة قيام علاقات قوية مع الجانب الصيني، ولكن انطلاقاً من استراتيجية تعددية حقيقية أكثر توازناً، تضمن مصالح كل الأطراف الفاعلة على المستوى الدولي؛ لأن أوروبا على الرغم من اختلافها الحالي مع واشنطن، فإنها لا تريد أن تطوّر علاقاتها مع بكين على حساب علاقاتها التاريخية مع الجانب الأمريكي، لقناعتها بأن الخلاف مع الإدارة الأمريكية الحالية ظرفي وستجري تسويته مستقبلاً، لأسباب حضارية وجيوسياسية، تتجاوز الحسابات التجارية الضيقة.
وتحاول بكين أن تستثمر في هذا السياق، تقاربها مع الدول الأوروبية من أجل مواجهة الضغوط الأمريكية التي تسعى إلى إرغامها على تقديم تنازلات مؤلمة، في مفاوضتهما التجارية التي يسعى من خلالها الطرف الأمريكي، إلى كسر الاندفاع الصاروخي للقدرة التنافسية الصينية التي تهدد الزعامة الأمريكية على العالم، خاصة أن التقارير الدولية تشير إلى أن الاقتصاد الصيني إذا حافظ على وتيرة نموه الراهنة، فسيحتل المرتبة الأولى عالمياً في أقل من 15 عاماً، وستشكل الصين بداية من سنة 2025 التهديد الأكبر بالنسبة لواشنطن، على المستويين الاقتصادي والجيواستراتيجي.
وزيادة على مراهنة الصين على علاقة أكثر توازناً واستقراراً مع الدول الأوروبية ولاسيما مع إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وفي سياقات مختلفة مع بريطانيا، فإنها تعتمد على علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو، من أجل مواجهة التهديدات العسكرية الأمريكية في بحر الصين، والتي تهدف من خلالها إلى عزلها عن محيطها الإقليمي، وذلك في سياق تبادل المصالح بين الجانبين، خاصة أن روسيا تعلم جيداً أن قوتها العسكرية الضاربة، تحتاج إلى دعم اقتصادي من قبل الحليف الصيني، نتيجة الحصار الذي تفرضه الدول الغربية عليها، والذي مازال متواصلاً على الرغم من دعوات كثير من الأطراف الغربية، إلى عدم دفع موسكو إلى الارتماء بشكل كامل بين أحضان التنين الصيني.
ويشير المراقبون إلى أن استمرار الصراع بين الأقطاب التقليدية والصاعدة على مستوى المشهد الدولي، يفيد بأن العالم لم يعد بإمكانه أن يعود إلى حالة القطبية الواحدة، وبالتالي فإنه إذا عجزت الدول الكبرى عن التوصل إلى تفاهمات جدية تؤدي إلى تحقيق تعددية قطبية متوازنة، فإن العالم سيتجه خلال العقود المقبلة نحو مزيد من الفوضى التي من شأنها أن تُقوِّض قواعد النظام العالمي والعلاقات الدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"