من التقشف إلى التطرف

05:12 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

لا شك أن هنالك علاقة مباشرة بين التقشف المالي من جهة وزيادة العنف والتطرف على أشكاله من جهة أخرى.

منذ بداية الأزمة المالية العالمية في سنة 2007، تزداد عمليات العنف والكره والبغض والتكفير ليس فقط في منطقتنا الشرق أوسطية وإنما في العالم أجمع.
العمليات المرتبطة بالدين والعرق والجنسية والجنس وغيرها ارتفعت بشكل كبير ومقلق مؤخراً، بعد أن غابت أو خف عددها وحجمها قبل ذلك.
إذا ربطنا عمليات العنف في الدول العربية بالسياسة السيئة وضعف الأداء وعدم احترام المواطن وغياب الديمقراطية والحريات، فكيف نصف عملية «شارلستون» الأمريكية الأخيرة بغير الكره والجنون وربما تعثر الأوضاع الاقتصادية وفي طليعتها البطالة المرتفعة.
التعصب الديني ليس جديداً وكذلك التطرف العرقي، لكنهما كانا مكبوتين أو مقهورين عندما كانت الأوضاع الاقتصادية جيدة.
لا شك أن أزمة 2007 أظهرت للعالم أجمع خطورة التهور المالي وانعدام الضوابط بل غياب الرقابة المالية والنقدية الجدية.
هنالك إجماع اليوم حول عدم معالجة جذور المشكلة المستمرة مع اليونان اليوم وغداً مع دول أخرى.
هل تحسنت وسائل ونتائج الرقابة؟ هل تعالج مشكلة الفجوة المادية بين الفقراء والأغنياء التي تقلق المجتمعات؟ لماذا القول إن مشكلة الاقتصاد العالمي هي الإنفاق العام المرتفع وأن الحل يكمن في التقشف؟ هل درست تماماً نتائج التقشف الخطيرة ومنها زيادة التطرف والعنف؟ هل هنالك وعي عام حكومي وشعبي للمخاطر التي سببت أزمة 2007 كما للتعديلات المطلوبة؟ لماذا يعالج العالم نتيجة الفوضى وليس أسبابها؟ يطلب اليوم من اليونان أن تتقشف أكثر كي تحصل على 270 مليار دولار من القروض قبل 30 يونيو/حزيران وإلا توجهت نحو الإفلاس وربما الخروج كليا من منطقة اليورو.
يطلب منها هذا الشيء عندما كان التقشف نفسه سبب الأوضاع الاجتماعية الصعبة، بل عندما كان السبب الرئيسي لفوز حزب اليسار «سيريزا» في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
يطلب من اليونان اليوم التقشف في نظامها الاجتماعي وحقوق الموظفين والأُجراء وانفافها الاجتماعي.
ماذا سينتج عن هذه السياسات إذا ما طبقت غير العنف والقلق والفقر والبطالة؟ هل أخطأت اليونان فيما سبق؟ نعم لكن الرقابة على سياساتها لم تكن جيدة فتركت تغرق في الديون.
لو قامت الوحدة الأوروبية وصندوق النقد والمصرف المركزي الأوروبي بواجباتهم منذ سنوات، لما غرقت اليونان في الديون البالغة 177% من الناتج كما من العجز المزمن المتراكم.
إذاً الأخطاء مشتركة والإهمال مشترك، ومن المستحيل الضغط على اليونان لإصلاح كل شيء خلال أيام.
حسنا، الشعب اليوناني بأكثريته الساحقة يريد أن يبقى في منطقة اليورو أي ضمن مجموعة ال 18، إلا أن للتضحيات حدوداً.
في كل حال، الحكومة الحالية غير مفوضة من الشعب للخروج من منطقة اليورو، بل انتخبت لتعالج شروط البقاء فيها.
الخروج من اليورو يتطلب انتخابات جديدة أو استفتاء جديداً يقرر مصير اليونان لسنوات طويلة وربما لعقود قادمة.
المقلق في هذا السياق أن المقرضين يضغطون مالياً بينما المشكلة هي أعمق بكثير وتصل إلى قلب الاقتصاد والمجتمع.
المطلوب من الجهات المقرضة الاتفاق مع الحكومة اليونانية على برنامج يحرك الاقتصاد ويعيده إلى النمو الذي يساعد في حل المشكلة المالية.
من الأفكار المطروحة إلغاء بعض الديون وتأجيل استحقاقات ديون أخرى مع التأكد من وجود هيكلية إدارية وإدارة مالية داخلية تمنع عملياً إعادة بناء ديون جديدة.
المطلوب من الحكومة اليونانية رفع التحصيل الضرائبي وليس زيادة النسب الآن.
إن الفساد يضرب القطاع العام حيث تقع اليونان في المرتبة 69 في مؤشر الشفافية، وهنالك مافيات كبيرة لا تسدد ما يترتب عليها من ضرائب للدولة.
المطلوب من حكومة «تسيبراس» رفع إنتاجية الإدارة العامة حيث تقع اليونان في المرتبة 81 في مؤشر التنافسية الدولية كي تؤثر بشكل ايجابي وأفضل على الأوضاع.
هنالك خلل فاضح في بناء المؤسسات واحترام التوازنات الاقتصادية كما في تطوير سوقي العمل والمال.
المطلوب من الحكومة اليونانية تسهيل الإجراءات القانونية والإدارية التي تعرقل توجه الاستثمارات إلى اليونان حيث تقع في المرتبة 61 في مؤشر البنك الدولي من ناحية سهولة الأعمال.
النقص الكبير حاصل في صعوبة تسجيل الأملاك كما في تنفيذ العقود.
هنالك ضرورة لتسهيل استقبال الاستثمارات الجديدة، خاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تخفف البطالة وتسهم في رفع نسب النمو.
المطلوب من الحكومات الأوروبية التعويض على مصارفها المقرضة لليونان، بحيث لا تتحمل المصارف وحدها ثقل إلغاء وتأجيل بعض الديون العامة اليونانية.
المطلوب من اليونان رفع سن التقاعد وربما إنهاء التقاعد المبكر المكلف للاقتصاد والشركات والمؤسسات.
المطلوب إنهاء الضغط التقشفي المفروض على اليونان منذ القرض الأول في سنة 2010 الذي أغضب الشعب وضرب النمو ورفع نسبة البطالة العامة إلى ما يفوق 25% كما نسبة بطالة الشباب إلى أكثر من 50%. تكمن الصعوبة اليوم في ضرورة تغيير اتجاه التطور اليوناني 180 درجة وبسرعة، بحيث ينمو الاقتصاد ولا يغرق أكثر.
مشكلة الاقتصاد الدولي لا تكمن في اليونان تحديداً وأوروبا عموما، إنما تصل إلى القارات الخمس.
في الولايات المتحدة مثلا، هنالك تخوف من ارتفاع الفائدة مما يصعب على المقترضين تسديد الديون وربما يعيد الاقتصاد إلى الركود.
فالسياسة النقدية التي اعتمدها المصرف المركزي منذ سنوات، أي زيادة الكتلة النقدية المتوافرة عبر شراء السندات في السوق، سببت انخفاض الفائدة وارتفاع قيمة الأصول الصافية للأسر حوالي 10 آلاف مليار دولار في سنة 2013.
هنالك خوف متجدد من ارتفاع أسعار الأسهم وأسعار العقارات بنسب عالية، أي عودة ممكنة إلى 2007. كما أن حجم الديون ما زال يرتفع بسبب انخفاض الفوائد مما يشير إلى إمكانية تعثر التسديد في المستقبل القريب.
باختصار الأوضاع الاقتصادية الأمريكية مستقرة اليوم، إلا أن امكانية التعثر من جديد موجودة مما يسهم في وجود القلق عند المواطن العادي وبالتالي احتمال ارتفاع عمليات التطرف والعنف.
ما المطلوب للتصحيح الذي ربما لا يلغي المشكلة وإنما يخفف من وطأتها حاليا وخاصة في المستقبل؟ هنالك ضرورة لوضع السياسات العامة لمصلحة المواطن وليس على حسابه.
أولا: الاهتمام بالبيئة، ولم تأت صرخة البابا فرنسيس الأخيرة من لا شيء بل من ضرورة وضع حلول ليس فقط لنتائج التلوث وإنما لأسبابه.
ثانيا: وضع مشكلة فجوة الدخل في طليعة اهتمامات الحكومات حيث يخف التشنج بين الميسورين والفقراء فتتحسن أوضاع الأخيرين وتصبح الأوضاع الاجتماعية أهدأ.
ثالثا: معالجة الخلل الانتاجي أي ضرورة وضع السياسات التي تعزز القطاعين الزراعي والصناعي.
القطاع الخدماتي مهم وكبير وليس من الضروري تحجيمه، إنما من الضروري تعزيز القطاعين الآخرين عبر السياسات المناسبة.
في فرنسا مثلا، انخفض حجم القطاع الصناعي في الانتاج العام من 23% في سنة 1980 إلى 14% في سنة 2013.
انخفضت العمالة الصناعية الفرنسية من 5 ملايين في سنة 1980 إلى 3 ملايين في سنة 2013 أي بنسبة 40%.هذا حال معظم الدول إن لم يكن جميعها، وأرقام الزراعة أسوأ عالمياً.
رابعا: هل تقوم الدول بواجباتها لتعزيز الانتاجية ورفع مستوى التنافسية وضرب الفساد؟ هنالك تقصير فاضح في هذه المجالات بسبب تضارب المصالح أي ارتباط السياسة بالاقتصاد.
المطلوب الاستثمار أكثر في التعليم والصحة والبنية التحتية التي ترفع جميعها انتاجية المواطن والمؤسسات والشركات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"