نحو جامعة إماراتية واحدة

04:49 صباحا
قراءة 4 دقائق

لطالما كانت التربية الصرح الأكثر أهمية بين منشآت دولة الإمارات العربية المتحدة . لقد جعل المغفور له الوالد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تعليم الشعب الأولوية، وشجع نساء الإمارات على تعزيز أنفسهن من خلال طلب العلم . وبفضل جهوده العظيمة غدت نسبة المتعلمين من أبناء الوطن بحدود 97% مع تفوق النساء على الرجال في هذا المضمار .

ومع النمو المطرد للاقتصاد الوطني غدت الدولة وعاء تنصهر وتمتزج فيه العديد من الحضارات والجنسيات . وقد أنشئت المدارس الخاصة لتستوعب مختلف الجنسيات المقيمة في الدولة، وانتشرت المدارس من كل نوع يمكن أن يخطر في البال، وعلى حين غرة أصبحت الإمارات تعج بآلاف المدارس .

لقد بدأ التعليم خطاه الحثيثة نحو عالم التجارة البراق حيث تحكم الأرباح بقبضة من حديد . وغدت المدارس مؤسسات لا هم لها إلا الكسب المادي ولم تعد جودة التعليم شرطاً أساسياً، ويبدو أن نظام التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة قد أخذ مفاتيحه من نموذج مقاهي الستاربكس للنجاح، فيعطي تراخيص شاملة للدرجات العلمية بالعشرات كما تقدم القهوة بوفرة في المقاهي، فالكمية لا النوعية هي الأهم .

ومع تزايد أعداد المدارس والخريجين سنوياً، أصبح الطلب على المزيد من الجامعات ومؤسسات التعليم العالي وشيكاً، فرحنا مرة أخرى ننفق مليارات الدراهم بسخاء، ونفاوض مطولا جاهدين لإقناع هذه الجامعة أو تلك بفتح فرع لها في الإمارات، ملتزمين بثقافة الجامعة ورؤيتها حتى وإن كانت مخالفة لنا . إننا في قمة الحماسة لفتح جامعات عالمية ضمن حدودنا حتى وإن كان ذلك يتطلب منا تعديل قوانيننا، والابتعاد عن وجهات نظرنا، والتنازل عن لغتنا الأم .

والحق يقال، إن في عالم التعليم أسماء معروفة ومحترمة، ولا يكون المال عاملاً حاسماً لا سيما إذا تعلق الأمر بالجهود التي تبذلها الإمارات في هذا المجال، ولكن ثمن مثل هذه الاتفاقيات لا يمكن أن يقاس بالأرقام .

وقد يصبح الأمر أكثر تعقيداً عندما نتنازل خلال التفاوض عن بعض الأساسيات الحاسمة مثل نوع المقررات التي ستدرس في تلك الجامعات، وتوافقها أو عدم توافقها مع الطابع الإسلامي والعادات والتقاليد لهذا البلد .

وحين نبيح لطلاب جامعتنا العيش في سكن داخلي مختلط فإننا نتجاهل الجانب الأكثر أهمية من ثقافتنا الإسلامية، ونخطو خطوة لا سابق لها في العالم العربي . فما من بلد عربي آخر التزم بمثل هذا الشرط الذي تفرضه بعض الجامعات الأجنبية بغض النظر عن أي دولة كانت .

ومع احترامنا البالغ لهذه الجامعات الكبرى، فإننا نتساءل كيف تحجب ترتيبات منامة طلابكم رؤيتكم كمؤسسة تربوية، ولا أرى مثل هذه الترتيبات تشكل عائقاً أمام التعليم والحياة الجامعية، فمعظم طلاب الجامعات لا يقيم في سكن داخلي، ومع ذلك فإنهم يتخرجون بالخبرة ذاتها ويحصلون على شهاداتهم من جامعاتكم تماماً مثل غيرهم، أليس هذا صحيحاً؟

وإذا كانت الجامعة، على شهرتها ومكانتها، لا تستطيع الالتزام أو على الأقل مراعاة الدين والثقافة السائدين في البلاد فنحن في غنى عنها! إن الأمر ليس مجرد وضع لافتة لاسم مشهور على الأبواب وتوزيع للمنشورات الجذابة لملء المقاعد بالطلاب القادمين من أرجاء العالم كله، فالمسألة مسألة تعليم وتربية أكثر منها مقررات تختارها الجامعة، إنه أيضاً تعليم الطلاب القادمين من عرض الدنيا وطولها وتعريفهم بتراث دولة الإمارات العربية المتحدة وثقافتها .

إن الصورة التي نأملها لمستقبل نظام التعليم في الإمارات لا مكان فيها لآلاف الجامعات العالمية ومئات الجامعات الأخرى التي ترخص بفتح فروع لها في بلادنا بل هي صورة أكثر تحديداً وأبعد مدى، فلم لا نضخ هذه المليارات في تحسين مدارسنا الحكومية وإغنائها أولاً، ثم في بناء جامعة وطنية واحدة لنقول إنها بأكملها لنا .

في الماضي، كانت هذه الفكرة مجرد حلم لأن الموارد البشرية والخبرات لم تكن متوفرة وكانت تنشد من الخارج، أما اليوم ومع بلوغ نسبة المتعلمين 97 في المائة، فقد صار بإمكان الحلم أن يصبح حقيقة بالتأكيد .

لكن هذا لا يعني أننا لا ننعم اليوم ببعض الجامعات اللامعة التي مهدت الطريق في الاتجاه الصحيح، وبفضل عبقرية الشيخ زايد وبعد نظره أنشئت الجامعة الوطنية الأولى، جامعة الإمارات العربية المتحدة بمدينة العين التي فتحت أبوابها في العام 1978 . لقد كانت الجامعة خطوته الكبرى نحو تحقيق حلمه بتوفير التعليم لهذا الوطن وتزويده بالمهارات الضرورية حتى يأتي اليوم الذي يتمتع فيه بالاكتفاء الذاتي .

وكذلك فإن المدينة الجامعية التي أقامها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي تشع مثل نجم في سماء نظام التعليم الخليجي والعربي، كما أن هناك جامعات وطنية أنشئت وبدأت تحتل مواقعها المحلية والعالمية .

وبفضل هذا العمل الدؤوب فقد أصبح تحقيق مثل هذا الحلم ممكناً . إن هذه الجامعة الإماراتية قلباً وقالباً يمكن أن تكون جامعة مخصصة، يرأسها خبراء مواطنون بارزون في حقلهم، مع أساتذة يتم اختيارهم من العالم العربي ومن الخارج بناء على مدى التزامهم وجدارتهم .

وضمن هذا الإطار يتم تصميم المقررات لتعكس الوجه العصري للإمارات والتراث القيم وليجري تدريسها باللغتين العربية والانجليزية واسم الجامعة الذي لا ينم عن تبعية هو لنا وحدنا . وفي العالم العربي كثير من الأمثلة على ذلك، فجامعة القاهرة المصرية أنشئت في العام ،1908 ويدرس فيها طلاب من أنحاء العالم يسعون في طلب العلم، ليس لأنها تحمل اسم جامعة اشترته بمليارات الدولارات، ولكن لأن اسمها يساوي هذا المبلغ على مدى ما يزيد على مائة عام .

فلنبن مؤسسات تعليمية ليس لليوم ولا للغد بل لمئات السنين المقبلة، وليس لصورة أو مظهر ولكن للجوهر ولأجيال المستقبل . ولعل الدول الأجنبية تدفع ذات يوم لشراء اسم الجامعات الإماراتية، وتلتزم بقوانينها سعياً وراء علومنا وإنجازاتنا العظيمة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"