نظرتان إلى المسألة الكيانية

02:09 صباحا
قراءة 5 دقائق

يَتَنَازَعُ إدراكَ المسألة الكيانية في البلاد العربية المعاصرة نظرتان شديدتا التمايز والتجافي، تفترض الأولى أن البلاد العربية تشكل، على تفرق جغرافيتها السياسية والبشرية، وطناً قومياً واحداً جامعاً - هو الوطن العربي - مزقته الغزوة الكولونيالية وأخضعته للتجزئة الاقليمية. أما الثانية، فتذهب الى القول إن فكرة الوطن الواحد الجامع ليست اكثر من فكرة إيديولوجية وتطلع طوباوي، وان الموجود فعلاً أوطان متعددة بتعدد شعوبها. تميل الأولى الى التشديد على عوامل الوحدة والترابط في علاقات الاجتماع العربي، ناحية منحى تغليبها على عوامل التجزئة والانقسام، فيما تميل الثانية الى التشديد على عوامل التنوع والتميز والتمايز في نسيج ذلك الاجتماع، ناحية هي الأخرى منحى تظهيرها.

أنتجت النظرة الأولى مقالة قومية في الفكر العربي المعاصر انصرفت الى تأسيس رؤية فكرية وسياسية في مسائل الأمة، والتجزئة، والوحدة القومية والدولة القومية وفكرتي التعاون الإقليمي والتضامن القومي.

لم تذهل تماماً عن حقائق التنوع الأقوامي والديني في النسيج الاجتماعي العربي، ولا تجاهلت مطالب أخرى داخلية تتصل بحقوق الأفراد والجماعات في البلاد العربية المعاصرة، لكنها رأت في المسألة الكيانية أم المسائل التي تفرض نفسها أولوية في الفكر والممارسة.

وأنتجت النظرة الثانية مقالة حقوقية في الفكر العربي المعاصر اهتمت بالتفكير في الماهيات الاجتماعية والثقافية المختلفة والمتنوعة - ضد فكرة الماهية القومية الواحدة - فشددت على عوامل التعدد الأقوامي والديني والطائفي مدافعة - عن حقوق الأقليات بوصفها جوهر الحقوق الديمقراطية المطلوبة في المجتمع العربي، لكنها ما استطاعت إنكار ما بين الأقاليم العربية من روابط التداخل والاجتماع في نسيجها الثقافي والنفسي والاجتماعي، ناهيك عن التاريخي، وإن حسبتها غير ذات أهمية كبيرة امام نقائضها.

ليس بين المقالتين حوار حقيقي: تكتفي كل واحدة منهما بما لديها من معطيات فكرية في الموضوع فتنظر الى الأخرى كلغوٍ إيديولوجي شديد التجافي مع الواقع. وما قد يبدو من حوار بينهما احياناً هو شيء في باب المضاربات الايديولوجية. وإذا كان ممكناً عيار مضمون كل من تينك المقالتين، من وجهة نظر المعرفة التاريخية، أو المعرفة المستندة الى الخبرة التاريخية، لأمكن القول انهما تشتركان في اعتماد رؤية انتقائية - اجتزائية - الى الموضوع الذي تتناولانه: المسألة الكيانية. رؤية ضيقة، غير شمولية ولا تاريخية، إذن: ايديولوجية. ويكمن مضمونها الايديولوجي في قيامها على تصورات مسبقة، وجاهزة في الوعي، لطبيعة الكيان الاجتماعي العربي. وليست معرفتها سوى الاثبات النظري لتلك التصورات القبلية مع بعض من التوسل بمتفرقات من الواقع والتاريخ تقدم لها مدداً تحتج به!

لم يكن صحيحاً ان الوحدة قانون رئيس في الاجتماع الكياني العربي، كما ليس صحيحاً أن الاستعمار وجد كياناً عربياً موحداً - حين دخوله - فمزَّقه. لقد كان لعوامل الانقسام في المجال العربي الأدوار عينها التي كانت لعوامل الوحدة، ولم يكن في وسع الاطار العثماني الجامع ان يرتق خروق ذلك الانقسام حتى لا نقول إنه عمَّقها بتوليده آليات التنمية الدائمة للعصبيات المحلية وما كان لها من ترجمات سياسية في صورة سلط لا مركزية. ولم تكن الهندسة السياسية الاستعمارية جراحة قيصرية لتوليد كيانات من عدم دائماً، بل مالت الى تأسيس تلك الكيانات على الحدود نفسها التي رسمتها الاصطفافات العصبويَّة وانقساماتها، ولو لم تكن عوامل الانقسام تعمل في جوف المجتمع العربي، منذ ما قبل الحقبة الكولونيالية، لما وسع تلك الهندسة السياسية الاستعمارية أن تقوم أولاً، وأن تجد لها من يستجيب لها من الزعامات المحلية ثانياً، وأن تنجح أخيراً في تكريس الدولة الإقليمية (القطرية).

إن الأمة التي حلم بها القوميون الأوائل هي غير الأمة التي كانت ماثلة امامهم. الأمة التي تحدثوا عنها مشروع مستقبلي: أمة متمثلة على صورة الأمم الحديثة انصهرت مكوناتها - بفعل آلية الاندماج الاجتماعي والقومي - وتطابقت شخصيتها الثقافية مع كيانيتها السياسية. وهذه - كما في أوروبا - لا تنشأ إلا بنشوء الدولة القومية. وقطعاً ليست هي التي تنتج الدولة القومية وإنما هذه الأخيرة هي التي تنتجها. أما الأمة الماثلة أمامهم، فهي حصيلة عملية توحيد تاريخي على أساس مِلِّيّ وإن كان الحكم فيه للعرب شطراً من الزمن قبل أيلولة السلطة والخلافة الى غيرهم. خارج وحدتها المليَّة، كانت ثمة مطالب لجماعات عديدة، إما غير مسلمة وإما غير عربية كان انفراط الامبراطورية العثمانية مناسبة للجهر بنفسها. وما برحت الجماعات إياها تطرح كثيراً من تلك المطالب حتى اليوم، بل إن حدتها ارتفعت اكثر، منذ ثلث قرن، في امتداد الاخفاق الذي مني به المشروع القومي العربي.

ولم يكن صحيحاً ان الكيانات السياسية العربية، التي نشأت في - أعقاب انكفاء المشروع الاستعماري وجلاء قواته العسكرية، تستمد شرعيتها من قاع اجتماع داخلي: شعب مكتمل البنيان وذي شخصية وطنية مستقلة. فالجراحة الكولونيالية وقعت على كيانات كان بعضها موحداً وكان نسيجه الاجتماعي متماسكاً كما في حالة سوريا الطبيعية، فأنتجت دولاً داخل الشعب الواحد موزعة اياه عليها. ثم إن بعض الهندسة السياسية الاستعمارية اخترع جغرافيات سياسية وبشرية منتزعة من سياقها التوحيدي (الواحد) السابق، مركباً إياها على قوانين العصبية التقليدية. هكذا أصبح في وسع قبائل أو عشائر أو طوائف ان تصير شعوبا فيكون لها ملك وصولجان، وأن تتعهد عصبيتها بالتنمية المديدة مستخدمة ترسانة الدولة في ذلك.

وإذا كان من المسلَّم به تاريخياً أن الاستعمار لم يجد وطناً عربياً موحداً كي يقسمه على مقاس أطماعه وحساباته، فليس ثمة ما ينفي ان شكلا ما من اشكال الوحدة السياسية بين معظم الأقاليم العربية كان قائماً يعاد انتاجه في اطار الدولة العثمانية، مع حساب ان ما لم يكن يدخل في نطاق السلطنة العثمانية، كان ايضاً كياناً سياسياً موحداً في حدوده الجغرافية الموروثة منذ القرن السادس عشر (المغرب الأقصى). وليس ينال من هذه الحقيقة أن العرب كانوا مجتمعين في كنف دولة امبراطورية لا يحكمونها بأنفسهم، وانما تقوم على أمرها أمة أخرى هي الأمة التركية، ذلك بأنهم كانوا شركاء في تلك الرابطة (العثمانية) ولو من خلال الشراكة في الدين، والأهم أنهم كانوا موحدين داخل اطار تلك الرابطة، ونما شعورهم القومي فيها - كأمة عربية - بعد أن ضعف محتواها الإسلامي الجامع، وتضخم فيها الهاجس القومي التركي والنزعة الطورانية فترجم نفسه في سياسة تتريك قسري نبهت العرب أخيراً الى شخصيتهم القومية المستقلة.

أما ان يقال، من باب نفي الأمة، إن البلاد العربية زاخرة بالأقليات الدينية والطائفية والأقوامية، أي بنسيج اجتماعي فسيفسائي انقسامي تمتنع معه علاقات الاندماج القومي، فذلك مردود لأكثر من سبب لعل أهم تلك الأسباب ان ذلك مما نجد له النظائر في سائر الأمم. فليس في الأرض أمة تخلو من القلات الأقليات. ولم يكن وجود هذه سبباً في اسقاط فكرة الأمة أو في تفكيك المسألة القومية وردها الى مسائل حقوقية ديمقراطية، حقوق الجماعات الصغرى ما قبل - القومية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"