نقاش حول تركيبة الدولة

02:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

أثار الدكتور عبدالخالق عبدالله في الأسبوع الماضي مسألة حرية الصحافة في دولة الإمارات وتطورها وآثارها. كما تطرقت إلى ذلك الدكتورة عائشة النعيمي في مقال لها معقبة على مقال الدكتور عبدالخالق، الذي زاد بمقال ثالث حول هذا الأمر. ولست في معرض الخوض في سجال حول موضوع حرية الصحافة، إذ لست من المختصين في هذا المجال لأعلق عليه. إلا أن ما استوقفني في مقال الدكتور عبدالخالق الأخير كان تطرقه عرضاً إلى مسألة تفكيك المؤسسات الاتحادية. وإذ تناول مقاله المؤسسة الإعلامية بشكل خاص، إلا أنه تحدث بشكلٍ عام عن معظم المؤسسات الاتحادية، حيث ذكر تحجيم دورها في مقابل تضخم المؤسسات المحلية، كأنه يعزو السبب في ذلك إلى العامل المادي الذي عدّه السبب الرئيسي في إعادة الهيكلة هذه. ولئن جاء طرح الدكتور عبدالخالق وصفياً في هذا المجال إلا أن القارئ يتحسس منه رائحة النقد أكثر من عين الرضا.

والموضوع الذي تطرق إليه الدكتور عبدالخالق في غاية الأهمية، إذ إنه يتناول واقع دولتنا، بل واقع ومستقبل كل فرد منها، ممن هو حاضر اليوم أو قادم في الغد، إذ هي مسألة الأجيال. ولايمكن التطرق إلى هذه المسألة الحيوية المهمة عرضاً في سياق موضوع آخر، بل من الواجب طرحه على مستوى النقاش العام ليدلي فيه كل المخلصين من أبناء الوطن والغيورين عليه بدلائهم فيتم بذلك تقديم عصارة الفكر وخلاصة الرأي إلى أولي الأمر ليبتوا فيه ما يرون.

وللمسألة في حقيقة الأمر خلفية. إذ جمعني مع الدكتور عبدالخالق نقاش حول هذه المسألة منذ أشهر طرحنا فيه وجهتي نظر مختلفتين. وإن لم نصل إلى قناعة مشتركة بيننا حول هذه المسألة، فإننا لم نختلف على الود والتواصل.

إن المتتبع لمسيرة الاتحاد يرى أن دستور عام 1971 جاء ليعكس الصورة الفيدرالية للدولة الاتحادية الوليدة. إذ وزع الاختصاصات بين الاتحاد والإمارات الأعضاء فيه بشكل دقيق. ولئن جاءت الصورة الفيدرالية في نظر البعض قاصرة عن تلبية الطموح الوحدوي الذي كان يجيش في نفوس الكثيرين في تلك الحقبة، إلا أن هذا الطرح جاء واقعياً يعكس الحد الأقصى الممكن في تلك المرحلة متبيناً حكمة الآباء المؤسسين في إقامة أول كيان يجمع الإمارات، برغم كل الصعاب التي رافقت نشأته وتكوينه.

وفي نهاية السبعينات جدّ طرح يدعو إلى تجاوز الصيغة الفيدرالية والانتقال إلى الكيان الوحدوي الكامل، وتجلى هذا التوجه في قانون الشركات التجارية الذي صدر عام 1984 متبنياً النمط المركزي الشديد في التشريع والتنفيذ قاصراً كل الصلاحيات بيد السلطة المركزية، وهي وزارة الاقتصاد والتجارة، ومهمشاً، بل ومتجاوزاً كل دور للسلطات المحلية. وتعثر المشروع وتعديلات عديدة له مما يعكس التوجه القوي آنذاك للحفاظ على خصوصية التجربة الفيدرالية لاتحاد الإمارات والوضع القوي على أرض الواقع للمؤسسات المحلية.

وشهدت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات جمود الحياة في أوصال المؤسسة الاتحادية، وترهل أداؤها، في حين كانت الإمارات كشاب يافع بلغ مرحلة الفطام ويتحفز للانطلاق بكل قوة وعزم. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك نمو المؤسسات المحلية وبسط سلطاتها على كافة الاختصاصات حتى ما أفرده الدستور للاتحاد أحياناً. وتجلى ذلك بشكل واضح أيضاً في مجال قانون الشركات التجارية، إذ أصبح الترخيص والتنفيذ والرقابة والعقوبة بيد المؤسسات المحلية، التي زاد حجمها وتضاعفت قدراتها في مواجهة اضمحلال الدور الذي تمارسه المؤسسات الاتحادية، وأصبحت المؤسسات المحلية قاطرة النمو الاقتصادي للدولة بعدما كان الاتحاد هو من يتولى هذا الدور ويقوم به.

ونظراً لجمود التشريع الاتحادي وقصوره عن مواكبة التطورات التي حدثت على أرض الواقع، نشأت فكرة المناطق الحرة من خلال ثغرة وجدت في التشريع الاتحادي للالتفاف على قانون الشركات التجارية. ونمت هذه المناطق وتعددت وتعدد نشاطها، وبعدما كان مفهومها أن تمارس الشركات المنشأة فيها نشاطها ضمن حدود تلك المناطق، إذا بهذا النشاط يمتد ليشمل كافة مناطق الدولة في مخالفة صريحة لنصوص التشريع الاتحادي. إلا أن النجاح الباهر لأداء المؤسسات المحلية وقدرتها على تقديم خدمات متميزة وأداء فعال في مواجهة المؤسسات الاتحادية، التي كانت شبه مشلولة وبعيدة عن مسايرة الواقع، ناهيك عن تطويره، جعل الكثيرين يعيدون النظر في ما إذا كانت الصيغة المركزية هي الأمثل للنموذج الإماراتي. وطرحت فكرة إعادة توزيع الاختصاصات بين الاتحاد والإمارات بحيث يقتصر دور الدولة الاتحادية على التشريع والرقابة، بينما تختص الإمارات بالتنفيذ باعتبارها الأقرب إلى الأرض والأقدر على التحرك والأداء ببرهان التجربة والنجاح. وبعدما كان الأمر مقتصراً على النشاط الاقتصادي المتمثل في الشركات امتد إلى قطاعات التعليم والصحة والعدل والأشغال، إذ أصبح الدور الاتحادي فيها مقصوراً على التشريع وعلى الرقابة، بينما تسلمت المؤسسات المحلية زمام التنفيذ على أساس أن من شأن هذا أن يضفي نوعاً من المرونة في التعامل بين الاتحادي والمحلي، وبشكل يحقق الفاعلية في الإنجاز والتميز في الأداء.

وأياً كانت وجهة النظر في هذه المسألة، فإن الأمر الذي لاشك فيه أن التجربة التي نعايشها على أرض الواقع لا تعكس الصورة التي تبناها دستور الدولة، الأمر الذي يدعو إلى وقفة لمراجعة التجربة وتحديد الخيار الأمثل والأفضل للمحافظة على الكيان الاتحادي، وللعمل على نمو وازدهار هذه التجربة الفريدة إلى يومنا هذا على مستوى العالم العربي. إن مراجعة التجربة الاتحادية ليست عيباً أو محرماً طالما أن الغاية من المراجعة هي الاستفادة من هذه التجربة وإثراء النموذج الاتحادي وتضمينه عوامل النجاح والازدهار، ليظل الاتحاد كما كان دوماً خيار الحاضر والمستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"