هناك بديل عن الديكتاتورية والفوضى في تونس

05:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

افتتحت تونس عصر الثورات الشعبية السلمية، لكن هذا البلد وبعد انتصار ثورته انتصاراً ظافراً بات هو المهدد بتحوله إلى مسرح للعنف السياسي . إنها مفارقة كبيرة ومخالفة واضحة لتوجهات سياسية جوهرية عبّر عنها عموم شعب تونس باللجوء إلى النضال المدني السلمي، وتجنيب البلد إراقة نقطة دم واحدة . وقد جاء اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد (49 عاماً) أمام منزله الأربعاء الماضي 6 فبراير/شباط الجاري، ليدلل على المنحى الخطير الذي تتجه إليه البلاد ويهدد العباد . ومن يستمع إلى حديث أخير أجراه الشهيد بلعيد قبل يومين من استهدافه، يخال الرجل يتحدث بنفسه عن جريمة اغتياله . فقد حذر المغدور من موجة تصفيات جسدية، ومن استشراء العنف السياسي ومن ممالأة حكومة النهضة ووزارة داخليتها ميليشيات السلفيين وعناصر النهضة المتشددين، وعن عمليات اقتحام جرت لمقرات أحزاب أو اجتماعات حزبية من طرف ميليشيات سلفية ونهضوية تحت أنظار أعوان الأمن . حتى إن الرجل كان مهدداً، وقد صدرت بالفعل فتوى بإهدار دمه من قبل تلك الجماعات، ومع ذلك لم يتم توفير أية حماية تذكر له، وتم النيل منه بدم بارد أمام نظر سائقه الذي لم يحرك ساكناً حسب شهادة صحفية تونسية لإذاعة اكسبريس إف إم التونسية، تقطن في البناية نفسها التي يقيم فيها المغدور، وقد جرى التكتم على هوية الصحفية حماية لها .

الشهيد شكري بلعيد الذي يقود ائتلاف الجبهة الشعبية اليساري ( 12 حزباً وتجمعاً يسارياً وقومياً) يتمتع بسيرة نضالية، فقد قاوم بلا هوادة نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي وتعرض للتضييق والاعتقال في عهده . وقد واكب الثورة التونسية وأنشأ تنظيم الوطنيين الديمقراطيين، ويعد من الشخصيات التي تلقى احتراماً واسعاً في الشارع التونسي لدفاعه المجيد عن النهج المدني الديمقراطي بعد الثورة . وهو ما يفسر الصدمة الكبيرة التي عبرت عنها سائر القوى السياسية ما إن شاع نبأ اغتياله . ولم يقتصر الأمر على إبداء مشاعر السخط، إذ سارع عدد من القوى السياسية إلى الانسحاب من عضوية اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، وجرى توجيه اتهام سياسي لحكومة النهضة، رغم أن الحكومة أصدرت بياناً شجبت فيه وقوع الجريمة .

عانت تونس منذ استقلالها عمليات تنكيل وتضييق في عهد بن علي، وحتى في عهد الراحل بورقيبة لم يخل الأمر من عمليات عسف بحق معارضين ومستقلين، غير أن الديار التونسية لم يسبق أن شهدت عمليات اغتيال سياسي، وسوف يُحسب للجهة التي ارتكبت الجريمة أنها كانت السباقة في افتتاح هذا السلوك الدموي المشين، ومعها كل من يغطّي هذه الجهة لوجستياً وعقائدياً وإعلامياً . لقد أضاء دم الشهيد على من يتربّصون بحاضر تونس ومستقبلها، ممن أخذتهم العزة بالإثم ، وممن زينت لهم أوهامهم أنهم قادرون على فرض أجندتهم على ملايين التونسيين بالتخويف، وأخذ القانون باليد وإرهاب شركاء العملية السياسية، وتسخير دور العبادة للدعوة الإيديولوجية والسياسية، وتشكيل أذرع ميليشياوية على غرار ما جرى ويجري في العراق باسم حماية الثورة .

في غمرة ذلك بات واضحاً أن الحديث عن الوفاق والوئام والوحدة بين كل التونسيين سيظل كلاماً بلا طائل أو مردود، إذا لم يبادر الطرف الحاكم إلى رفع الغطاء عن جماعات العنف والأذرع الميليشياوية وشبه الميليشياوية، وتفكيكها وتقديم أفرادها للعدالة، وتحريم أي وجود لجماعات مسلحة أو شبه مسلحة، والالتفاف حول القوة الشرعية المتمثلة بالقوات المسلحة ورجال الأمن مع تحريم العمل السياسي والدعوي في صفوف هؤلاء، كي تبقى قوة مهنية وطنية غير حزبية مهمتها الدفاع عن الوطن والشعب والتعددية السياسية والثقافية .

في هذا السياق كان من أهم مطالب القوى المدنية أن تبقى وزارات السيادة في أيدي وزراء مستقلين وليس تحت إمرة وزراء يتبعون هذه الجهة الحزبية أو تلك، إلا أن حركة النهضة رفضت هذا الطلب وعهدت بوزارة الداخلية إلى وزير ينتمي إلى الحركة (علي العريض) وكان أمراً ذا دلالة أن محتجين مفجوعين بقتل المغدور شكري بلعيد سارعوا للتوجه إلى مقر وزارة الداخلية في شارع بورقيبة في قلب العاصمة تونس للاحتجاج على الجريمة، فضلاً عن انفلات موجة الاحتجاجات على الجريمة ووصولها إلى مقرات لحركة النهضة وإحراقها . ولعل رئيس الحكومة الجبالي قد أمسك بطرف الخيط بدعوته إلى تشكيل حكومة مصغرة غير حزبية، فالرهان هو على تطمين الناس بأن لا حزب يستأثر أو يحتكر الحكم . ورفض حركة النهضة دعوة الجبالي الذي ينتمي إلى الحركة، يعني بين ما يعنيه أن النهضة لم تستخلص الدرس الصحيح من ردود الفعل الساخطة على الجريمة .

لقد وجهت سائر القوى السياسية المدنية أصابع الاتهام السياسي (لا القضائي بالطبع) لحركة النهضة التي وفرت بيئة لثقافة العنف وممارساته وجماعاته، حتى مع ظهور تباينات بين الحركة ووجوه سلفية، إذ ينبغي ألا يغيب عن البال أن العناصر المتشددة في النهضة تجد أرضاً مشتركة تجمعها مع السلفيين، الذين ساعدوا على إيصال النهضة إلى البرلمان، ما يعني أن هناك تشابك مصالح بين الطرفين، يسنده التلاقي في الرؤى السلفية النهضوية، لدى القوى الأكثر أدلجة في صفوف النهضة .

من المؤسف أن تعيش تونس في فوضى أمنية عارمة، وأن يجري فتح صفحة سوداء هي صفحة الاغتيال السياسي والتهديدات الصريحة لناشطين، مع بروز جماعات تجهر تحت أسماع السلطة وأنظارها باعتناقها خيار العنف، ولا خيار يتقدم على تشكيل سلطة تنفيذية تضم مسؤولين يؤمنون بالتعددية والدولة المدنية ويسهرون عليها، ولا يسعون لاختزال الشعب والحياة في لون واحد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"