وداعاً للشعار الفلسطيني المتهافت

02:58 صباحا
قراءة 4 دقائق
تتجه السلطة الفلسطينية إلى الطلب من مجلس الأمن إصدار قرار يدعو إلى إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية منذ العام 1967 في موعد أقصاه نوفمبر/تشرين الثاني ،2016 على أن يصار بعد صدور القرار إلى إجراء مفاوضات ثنائية مباشرة تضمن تنفيذ القرار .
مع أن هذا الطلب يبدو مكرراً، إلا أن الجانب الفلسطيني دأب من قبل على المطالبة بإنشاء دولة مستقلة مع الدعوة للاعتراف بها، وهذه هي المرة الأولى والمتأخرة جداً، التي يتم فيها رفع طلب إلى الهيئة الدولية الأرفع لإنهاء الاحتلال . علما ان الاحتلال استغل مطلب اقامة الدولة الفلسطينية على هواه ولأمد طويل، ولطالما ترددت تصريحات لمسؤولين صهاينة من قبيل أن الاستيطان لا يتعارض مع إقامة دولة فلسطينية . وكذلك جدار الضم والتوسع (الذي يسميه الفلسطينيون بصورة خاطئة جدار فصل عنصري، فيما هو في واقع الأمر عملية استيلاء على أراضٍ وضمّها إلى الكيان الصهيوني) لا يخالف مبدأ إقامة دولة للفلسطينيين! وقد بدا أن الصهاينة قد قرّ قرارهم على ان يمنحوا الفلسطينيين "دولة"، وأن يسلبوا منهم في الوقت ذاته أرضهم .
إن إنهاء الاحتلال العسكري والاستيطاني يؤدي حُكماً إلى إنشاء دولة مستقلة، أما المطالبة بدولة فلا تضمن انهاء الاحتلال الذي يسعى لدفع الفلسطينيين إلى أن يتعايشوا مع كيان مجزوء وشكلي لهم، مطعون في سيادته واستقلاله، جنباً إلى جنب مع الاستيطان واستمرار السيطرة "الإسرائيلية" .
هذا الواقع الكاريكاتيري الفظ هو ما دأبت تل أبيب على تكريسه وتسويقه، فهي تتجاوب مع آمال الفلسطينيين دون أن يدروا! ومستغلة اقتصار المطالب الفلسطينية على إنشاء دولة، بغير ان يقترن ذلك بمطلب انهاء الاحتلال .
والمسألة ليست لفظية، بل ذات ابعاد قانونية وسياسية، فهناك أطراف في عالمنا تطالب بإنشاء دولة لها مثل الباسك في إسبانيا، والأكراد في العراق وجنوبيي اليمن، وهذا المطلب من الممكن تكييفه واحتسابه دعوة انفصالية . ولو ظل الفلسطينيون نائمين على مطلب اقامة دولة فقط، فسوف يساعدون من حيث يغفلون الاحتلال على طمس وجوده الكريه واللاشرعي .
المطلب الحالي بإنهاء الاحتلال يتطلب موافقة تسعة أعضاء من أصل 15 عضواً دائماً وغير دائم في مجلس الأمن . وإذا أمكن ضمان هذه الموافقة فإن الفيتو الامريكي ينتظر، وذلك كجزء من الثوابت الأمريكية التي تجعل السياسة الخارجية الأمريكية بخصوص الصراع العربي - الصهيوني أو ازمة الشرق الأوسط ملحقة بما ترتأيه وتقرره تل أبيب . الرئيس محمود عباس يقول إنه يتعرض لضغوط للتراجع عن رفع هذا المطلب إلى مجلس الأمن، وأنه ماضٍ فيه، وأمام الاعتراض الأميركي المنتظر، فلسوف يتم رفع المطلب إلى المحكمة الجنائية الدولية . يبدو هذا التسلسل البسيط منطقياً، لكن التساؤل المثار: لماذا تم اضاعة الوقت منذ نحو سنتين مضتا، حين فازت فلسطين بعضوية دولة مراقب في الأمم المتحدة، ولم يتم الانضمام إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية ورفع المطلب اليها؟ لماذا لا يضيع الاحتلال دقيقة واحدة، فيما ظل يركن الجانب الفلسطيني إلى سياسة سكونية انتظارية، تتغير خلالها معالم الأرض ويتعرض الشعب الرازح تحت الاحتلال إلى شتى صنوف التنكيل؟
إن أهمية نيل فلسطين عضوية الأمم المتحدة تكمن أساساً في امكانية الانضمام إلى هيئات دولية، وقد حرص الجانب الفلسطيني على الانضمام إلى هيئة اليونسكو، لكنه لم يبد اهتماماً بما هو أهم وهو الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية .
الآن فإن الرئيس عباس يبدو كمن يضع قيداً أو شرطاً على نفسه . فانضمام فلسطين إلى هيئات دولية وهو حق "سيادي" بات مرهوناً بما يجري في مجلس الأمن والامم المتحدة . وفي الأصل ان لا يرتهن هذا الحق إلى اي شيء خارجه .
أجل ان هناك بعض التضحيات التي ستلقى على عاتق السلطة والشعب في حال المضي في هذه المواجهة السياسية الحازمة التي تأخرت طويلاً جداً، من قبيل الحرمان من مساعدات أمريكية (700 مليون دولار كما حددها عباس)، غير انه من الواضح جدا لكل ذي عينين ان الثمن السياسي لهذه المساعدات غالٍ جداً، بل فادح . وأن المال قابل للتعويض، بينما المجازفة بالقبول "المشروط" لهذه المساعدات تجعل منها بمثابة رشوة لإرجاء التمتع بالحقوق إلى اجل غير مسمى، وليس سوى ذلك .
يكاد عمر الاحتلال يقترب من نصف قرن، وما زالت واشنطن متمسكة برؤية سقيمة ملتوية مفادها أن أي شيء يتحقق للفلسطينيين يجب أن يمر عبر التفاوض وموافقة الطرف الآخر . وهي وصفة مؤداها العملي تأبيد الاحتلال وتبديد الحقوق الوطنية والسياسية للفلسطينيين، فالاحتلال ليس منتظراً منه صحوة ضمير تجعله يحمل عصاه ويرحل . وبغير ضغوط حازمة ومكثفة ودائمة، فإن الغزاة اللصوص لن يتراجعوا . والانسحاب من غزة في العام 2000 مع إدامة الحصار على القطاع لم يتم إلا لتكريس احتلال الضفة الغربية .
مطلب إنهاء الاحتلال العسكري والاستيطاني يتعين ان يظل عنوان الكفاح الوطني ومضمونه، وكفى استخداما للشعار المتهافت بإقامة دولة فلسطينية الذي افاد منه الاحتلال فائدة قصوى، وطمس الطابع التحرري لقضية فلسطين، كما طمس وجود الاحتلال وهويته .

محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"