«حرب» بين إيطاليا وفرنسا!

03:39 صباحا
قراءة 5 دقائق
بهاء محمود

لطالما هددت الحكومة الإيطالية تماسك الاتحاد الأوروبي، منذ مجيئها حيث تعمل على زعزعة بنيانه، فلم تكن قضية الهجرة آخر الخلافات ولا قضية الموازنة الإيطالية، كما خرجت الحكومة الإيطالية عن الصف الأوروبي لتدعم «السترات الصفراء» وتهاجم الحكومة الفرنسية وتهاجم رئيس الدولة إيمانويل ماكرون، في مشهد مناقض لما يجب أن تكون عليه الحليفة السابقة لفرنسا إبان عهد هولاند والكتلة الجنوبية في الاتحاد الأوروبي.
بدأت فصول الأزمة الفرنسية - الإيطالية إثر رؤية «لويجي دي مايو» تشابهاً بين حركته «حركة النجوم الخمسة» و«السترات الصفراء»، وتوجيه دي مايو، نائب رئيس الوزراء الإيطالي، خطاباً حماسياً إلى متظاهري «السترات الصفراء» الفرنسيين، ما اعتبره قصر الإليزيه إهانة له، لا سيما أن التوتر بين فرنسا وروما موجود منذ تولي الحكومتين سدة الحكم، فيما يرى «جيوفاني أورسينا» - أستاذ التاريخ السياسي بجامعة لويس في روما - أن هذا التوتر والخطاب الإيطالي ليس كرهاً أو عداوة للفرنسيين بحسب تصريحه قائلاً: «انطباعي هو أنها ليست خطوة معادية للفرنسيين وإنما هدف داخلي لإثبات القاعدة، التي لا تزال طرفاً مبتكراً مناهضاً للمؤسسة». «عليهم أن يظهروا للناشطين أنهم ما زالوا قوة مقاومة مناهضة للنظام».
وبعد خطاب «دي مايو»، أعلن سالفيني وزير الداخلية الإيطالي والنائب الثاني لرئيس الوزراء الإيطالي، هو الآخر تضامنه مع «السترات الصفراء»، قائلاً: في بيان معلن «أؤيد المواطنين الشرفاء الذين يحتجون على رئيس يحكم ضد شعبه في حين يدين «بشدة» أعمال العنف التي اندلعت مؤخراً». وجلي أنه نادراً ما يدعم القادة الأوروبيون المتظاهرين المناهضين للحكومة في دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، لتؤكد هذه الخطوات العلاقات المتوترة بين روما وباريس، التي كانت قد اشتبكت في السابق حول سياسة الهجرة، ثم إغلاق إيطاليا موانئها أمام المهاجرين، لترتفع حدة التوتر حينها عقب دخول القوات الفرنسية إلى إيطاليا دون إذن لمنع المهاجرين من عبور الحدود.
القراءة المبدئية لمغزى تصريحات نائبي رئيس الوزراء الإيطالي، دي مايو وسالفيني، هو فهم طبيعة الحركتين الشعبيتين اللتين نشأتا كحركتين احتجاجيتين، رافضتين لسياسات اليمين المحافظ الإيطالي وكذلك اليسار، وأيضاً قيم الاتحاد الأوروبي، والديمقراطية غير المباشرة، معلية نظام الديمقراطية المباشرة، حيث سرعان ما استطاعتا الاستفادة من الأزمات التي تمر بها إيطاليا، لتمرا في انتخابات برلمانية تشهد صعوداً شعبوياً بحتاً على حساب اليسار الحاكم، ويقوي هذا النهج ما عبر عنه نشطاء من حركة «خمسة نجوم» موضحين أن حركة «السترات الصفراء» جذابة ليس كونها تعارض ماكرون، بل لأنها تشبه حركتهم الخاصة، فالمشاعر المناهضة للمؤسسة الواقفة وراء الاحتجاجات الفرنسية مشابهة للاحتجاجات المبكرة التي أدت إلى إنشاء حركة خمسة نجوم، حيث إن الحركتين ولدتا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. كلاهما معادية للانتساب ومناهضة النخبة، تستمدان الدعم من المواطنين الساخطين على اليسار واليمين.
وفي نفس السياق يرى لوكا مينيرو، المسؤول عن صفحة وسائل التواصل الاجتماعي لمؤيدي «حركة الخمسة نجوم» أن «ماكرون يعطي انطباعاً بأنه شاب وجديد، لكنه تربى في أروقة السلطة وممارسة السياسة القديمة»، مضيفاً أن «الخمسة نجوم» مثل «السترات الصفراء» «ولدتا من عدم الرضا وفشل الأحزاب التقليدية في الاستجابة للطبقة الوسطى».
ومن هنا يمكن تفسير تضامن الائتلاف الحاكم في إيطاليا، مع طبيعة نشأة «السترات الصفراء» كحركة متجاوزة الأيديولوجيات التقليدية، رافعة شعارات سياسية على رأسها المطالبة بتمثيل في صنع القرار السياسي، وليس فقط المطالب الاقتصادية العادلة، وبدا أنه إعجاب من الحكومة الإيطالية بما يحدث في فرنسا، وتضامن يصل لدرجة مد العون للمحتجين باستخدام منصات إلكترونية تابعة للائتلاف الحاكم لاستخدامها من قبل المتظاهرين الفرنسيين، في مشهد واضح منه التحريض على النظام الفرنسي، ودعوة لاستمرار التظاهر ضده.
من جانبها ترى تيزيانا بيجين، العضوة بحركة الخمسة نجوم، أن «أوروبا تواجه أزمة سياسية عميقة»، وتتساءل «كيف سيتم تنفيذ وعود ماكرون؟» مؤكدة بلسان حزبها: «لن نقبل بوجود مواطنين من الدرجة الأولى ودرجة ثانية في أوروبا». مضيفة أن إيطاليا لن تقبل تطبيقاً تقديرياً لقواعد الاتحاد الأوروبي، مؤكدة أن حركة الخمسة النجوم من أكثر المؤيدين للسترات الصفراء، كونها حركة ضد النخب الأوروبية والقواعد المالية، وهو ما ظهر في سياق أزمة الموازنة الإيطالية مع الاتحاد الأوروبي، حيث بدا أن إيطاليا تحرك الأمر بنوع من المقارنة المبتزة والضاغطة على خلفية الوعود التي أطلقها ماكرون، والتي بدا فيها وكأنه سوف يتخطى عجز الموازنة الفرنسية، وبالتالي ثمة أوراق ضغط أيدت موقف إيطاليا في مفاوضاتها، لذلك جاءت التصريحات الإيطالية مستغلة الموقف قائلة «من الواضح أن خطاب ماكرون يساعدنا وسيجبر المفوضية، لا سيما المفوض الفرنسي، على التفكير مرتين قبل فرض عقوبات علينا... حتى إن أكثر القادة الليبراليين والناخبين والمؤسسيين في أوروبا يجب أن يتراجعوا عندما يطلب الشعب». على عكس وجهة النظر السابقة يرى جاكوبو إياكوبوني، الصحفي ومؤلف كتاب «التجربة: تحقيق في النجوم الخمسة»: «إن طبيعة الخمسة نجوم هي ممارسة الشعوبية الانتهازية، والحرمان من أي قيم، والاقتران بأي حركة في الموضة»، ومن هنا وبعيداً عن التضامن الأيديولوجي مع السترات الصفراء تعد مسببات أخرى، هي المسؤولة أيضاً عن توتر العلاقات، وتوضح سر دعم إيطاليا للسترات الصفراء، بداية من سلسلة المشاحنات مع ماكرون ومع المفوضية الأوروبية في بروكسل منذ وصول الائتلاف الشعبوي إلى السلطة، لا سيما على ميزانيته الكبيرة في الإنفاق، التي تراعي التدابير الشعبية، ثم اختلاف اليمين الإيطالي مع ماكرون في نظرتهما إلى الاتحاد الأوروبي، حيث يسعى ماكرون إلى إعادة تنشيط المشروع الأوروبي في حين يعتنق التحالف الإيطالي وجهات نظر صريحة تجاه اليورو، ومن المرجح أن تتسع هذه الفجوة في الفترة التي تسبق انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/ أيار المقبل، حيث ظهر سالفيني على وجه الخصوص كزعيم قوي للشعوبية في جميع أنحاء القارة، بينما يسعى الرئيس ماكرون إلى دعم المؤسسة، وفي ذات السياق بدأ التوجه نحو تغيير خريطة القيادة الأوروبية من المحور الألماني - الفرنسي، ليصبح الإيطالي- البولندي، حيث إن روما ووارسو تعارضان بشدة النهج الأوروبي الحالي برفقة فيكتور أوروبان الزعيم المجري.
وبجانب التنافس الأوروبي الداخلي، ثمة تنافس أوروبي خارجي هو الآخر عامل للتوتر الفرنسي- الإيطالي، هو التنافس على النفوذ في ليبيا بين الدولتين، فكل منهما لها أجندتها المختلفة في ليبيا ولها خريطة تحالفات مختلفة ومصالحها المختلفة، وكثيراً ما جاءت التصريحات عدائية من قبل الطرفين، وهو ما يعني في النهاية أن تضامن إيطاليا مع حركات السترات الصفراء ظاهرياً يبدو دعماً لهم، وضمنياً هو صراع على المصالح، واستخدام إيطاليا كل الأوراق المتاحة للضغط على فرنسا المنافسة لها داخل أوروبا وخارجها.. إنها الحرب بلا أسلحة بين باريس وروما.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"