العداء الأخير

00:25 صباحا
قراءة دقيقتين

يفترض في التجمعات العالمية، مهما كانت طبيعتها، أن تكون مناسبات لإرساء قيم التسامح والتعايش وإعلاء قيمة الفطرة الإنسانية، ولا سبيل لذلك إلا باحترام انحيازات البشر واختياراتهم المشتركة، سواء المتعلقة بالدين أو الوطن أو العرق، أو غير ذلك مما تلتقي حوله مجموعة في إقليم من العالم أو في عدة دول.

وغياب هذه المعاني هو أحد الأسباب المرتبطة بالإرهاب والعنف، وهما مرفوضان في كل الأحوال، لأننا نصبح أمام تصرفين خارج حدود الاحترام، أحدهما يسخر من معتقد أو رمز أو اختيار جماعي، والآخر يسلك سبلاً دموية للتعبير عن غضبه، وهكذا ندور في حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل اللذين يوقعان أبرياء ويزيدان مساحات البغضاء. ونتيجة ذلك كله نسف ما راكمه العقلاء في العالم من الساسة والمفكرين وعلماء الأديان من جهود تستهدف تقليل مساحات الاختلاف أو محوها، فيما يمكن أن يحتمل الاتفاق الكامل وإشاعة روح القبول التي تعصم أرواح بشر يروحون ضحايا الحماقة، سواء ارتكبتها دول أو أفراد أو تنظيمات.

من هنا، صُدم كثيرون حول العالم مما تضمنه حفل افتتاح الأولمبياد في فرنسا من رسائل ومعانٍ حادت بالمبتغى من المناسبة، ففرّقت أكثر مما وحدت، وأخرجت حدثاً رياضياً يفترض أنه فرصة منتظرة لترسيخ قيم التنافس الحر، والتلاقي بين وفود العالم والتعارف الذي هو إحدى غايات الاجتماع البشري، من سياقه وحولته إلى سباق في التعبير عن الاستنكار والإدانة.

الإساءة إلى السيد المسيح، عليه السلام، وربطه صورته بما هو أكرم منه لم تغضب المسيحيين في الشرق والغرب فقط، بل استفزت المسلمين، ممثلين في أبرز رموزهم، وهو الأزهر الشريف، وهو استفزاز ليس الباعث عليه فقط التعدي على أحد أنبياء الله الذين ينبغي على المسلم أن يؤمن بهم جميعاً، وإنما أيضاً أسى هذه المؤسسة العريقة على ما يبذل من جهود بمشاركتها لإقرار التعاون الإنساني القائم على المحبة والاحترام.

في خزائن الثقافة الفرنسية، وتحديداً في كُبراها: باريس، ما يكفي للإبهار في مئات الملتقيات العالمية، وفي الصلة الراسخة بين باريس والنور المعرفي الإنساني ما كان كفيلاً بألا يمر في افتتاح الأولمبياد شذوذ الأفكار والصور المستفزة لملايين المسيحيين ومعهم سياسيون وعلماء دين على امتداد العالم.

في فرنسا نفسها، قالت الكنيسة الكاثوليكية إنها تستنكر الاحتفال الذي «تضمن مشاهد السخرية والاستهزاء بالمسيحية» بإضافة مشهد شاذ إلى إعادة تمثيل اجتماع السيد المسيح فيماعرف ب «العشاء الأخير» قبل الصلب، وفق المعتقد المسيحي، وهو الحدث المخلد في لوحة ليوناردو دافنشي الشهيرة.

وهذا المشهد المثير للجدل الذي اعتذر عنه منظمو الحفل لاحقاً، اعتبره مجلس كنائس مصر «يتجاوز حدود الحريات المشروعة، ويسيء الى مشاعر ملايين المسيحيين حول العالم». وحذر الأزهر من خطورة استغلالِ المناسبات العالمية لتطبيع الإساءة للدِّين، وترويج الأمراض المجتمعية الهدامة والمخزية.

هل يكون ما جرى تنبيهاً لفداحة الاقتراب من كل المقدسات والعداء الأخير لأصحابها؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ymxcshyf

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"