أحلام أردوغان تطير من إدلب إلى ليبيا

02:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

المعارك العنيفة التي شهدتها منطقة إدلب السورية خلال الأسابيع القليلة الماضية، مثلت ضربة قوية لأحلام الرئيس التركي التوسعية المحمومة التي لا تعرف حدوداً، والتي تمتد من شمال غربي سوريا إلى شماليّها وشمالها الشرقي، ثم تطير بعيداً عبر البحر المتوسط لتهبط على ساحله الجنوبي في ليبيا، بما تختزنه أرضها وسواحلها من نفط وغاز.
نعم.. هكذا تمتد أحلام أردوغان الإمبراطورية لتشمل دولة محورية كبرى مثل مصر، ودولتين كبيرتين كالجزائر والمغرب، ودولة مهمة مثل تونس!
ودون أن يتوقف أمام حقيقة شديدة الوضوح هي أن تركيا ليست مؤهلة لتحقيق هذا الحلم أو للقيام بمثل هذا الدور، لا بحكم القوة ولا النموذج، وأقرب مثال على ذلك هو فشلها الذريع في مصر، وإطاحة الشعب المصري حكم أتباعها (الإخوان) الإرهابيين، ثم فشلها في سوريا، حيث تلقت الفصائل الإرهابية الموالية لأنقرة «الإخوان» و«داعش» و«النصرة» وأشباهها هزائم قاسية، وانكفأت إلى منطقة إدلب التي أصبحت «مستودعاً» للإرهابيين.

بؤرة الإرهاب

تجمع في إدلب عشرات الآلاف من الإرهابيين المتمرسين في القتال من شتى الجنسيات، تحت قيادة وحماية أنقرة التي وفرت لهم التمويل والتسليح المتطور، واستخدمتهم تارة ولا تزال طبعاً كورقة قوية للتدخل التخريبي في الشأن السوري، من خلال قصف حلب واللاذقية وقاعدة «حميميم» الروسية، وقوات الجيش السوري وحلفائه،
وتارة أخرى كأداة في سياستها الإقليمية والدولية، من خلال ابتزاز أوروبا للحصول على المساعدات، والأخطر من خلال نقل أعداد منهم إلى بلدان أخرى لممارسة دورهم التخريبي (بمعرفتها وحدها أو بالاتفاق مع الولايات المتحدة) فنقلت أعداداً منهم إلى سيناء، وأعداداً أكبر إلى أفغانستان، وبالطبع إلى ليبيا، بالاتفاق مع التنظيم الدولي ل«الإخوان» الذين تستند إليهم حكومة فايز السراج، هم وجماعات إرهابية وقبلية ومرتزقة أخرى.
وبعد انتهاء معارك ضواحي دمشق والجنوب، شنت القوات السورية والروسية أول هجوم كبير على إدلب (صيف 2018)، واضطر أردوغان تحت تأثير الضربات القوية إلى عقد اتفاق ستوشي (سبتمبر 2018) الذي كان يقضي بإقامة منطقة عازلة (15 20 كيلومتراً) ونزع تركيا لسلاح المنظمات الإرهابية (بحلول منتصف يناير 2019)، لكن شيئاً من هذا لم ينفّذ.
ثم شنت القوات السورية والروسية و«الحليفة» هجوماً كبيراً أواخر الصيف الماضي أسفر عن استعادة سيطرتها على شمالي محافظة حماة وجنوب شرقي محافظة إدلب، بما في ذلك مدينة خان شيخون الاستراتيجية، وتكبد الإرهابيون خسائر فادحة، كما تم حصار نقطة مراقبة تركية، بما يمثله ذلك من هزيمة معنوية لأردوغان الذي اضطر لطلب الهدنة، متعهداً بتنفيذ «اتفاق سوتشي»، وهو ما لم يحدث بالطبع.

الدور المرسوم

وحينما قام أردوغان بغزو منطقة شرقي الفرات، بضوء أخصر من الرئيس الأمريكي ترامب، وبدعوى إقامة «منطقة آمنة» يعيش فيها اللاجئون السوريون، وتكون عازلة بين الحدود التركية وأكراد سوريا، فإن فصائل الإرهاب والمرتزقة من السوريين والعرب والأجانب هي التي قامت بدور «فصائل الصدام» في عملية الغزو، بهدف الحفاظ على أرواح الجنود الأتراك.
وأوضحت الجرائم الوحشية التي قامت بها «فصائل المقدمة» من قتل وترويع وطرد السكان الآمنين من بيوتهم، ونهب ممتلكاتهم، الانتماء الإرهابي الأكيد لأعضاء تلك الفصائل، وأدت لهروب ثلاثمئة ألف مدني خلال أيام قليلة، ومعروف كيف أدت هذه الجرائم إلى إثارة غضب الرأي العام الأوروبي، وكذلك الكونجرس الأمريكي الذي رأى في تلك الجرائم ضد الأكراد إخلالاً جسيماً بمصداقية واشنطن.
ومعروف كذلك أن التحرك بالغ السرعة للقوات الروسية والسورية باتجاه شرقي الفرات بمجرد الانسحاب الأمريكي، والانتشار الواسع لهذه القوات على الحدود السورية التركية، والاستقبال الشعبي الحار لتلك القوات، كانت كلها عوامل أدت إلى تقليص مساحة انتشار الجيش التركي والفصائل الإرهابية، وحصرها في المنطقة الواقعة بين رأس العين شرقاً، وتل أبيض غرباً، بعمق 32 كيلومتراً، ومساحة حوالي 4 آلاف كيلومتر مربع، وهو ما يختلف كثيراً عن خطة أردوغان التي كانت تقضي بالوصول إلى الحدود العراقية والاستيلاء على حقول النفط والغاز في الحسكة ودير الزور.

بين إدلب و«الجزيرة»

وعلى الرغم من صغر المساحة التي استولت عليها تركيا قياساً بما كان مخططاً له فإن السيطرة على هذه المنطقة، والتطلعات للتوسع استوجبت استدعاء آلاف المسلحين من إدلب ومناطق الشمال الغربي السوري، وهو ما أدى لإحداث درجة أو أخرى من «الخلخلة» في قوات الفصائل في تلك المنطقة، كما فتح مجالاً للاجئين وأسرهم للهروب من معارك إدلب، والقدوم للسكنى في الأماكن التي تركها المدنيون الفارون، وكلها مناطق عامرة ومزارع مزدهرة.
ونعني هنا المعارك الأخيرة التي استعادت خلالها القوات السورية والحليفة عشرات القرى والمواقع في جنوب وجنوب شرقي إدلب، وأحكمت الحصار على نقطة مراقبة تركية أخرى في جرجناز، وتهدد بالسيطرة على مدينة معرة النعمان الاستراتيجية.

دعم ليبيا

اللافت للنظر أنه على الرغم من التراجع التركي في سوريا قياساً إلى الأهداف الأولى وهزائم الفصائل الإرهابية التابعة لأنقرة، فإن هدف التدخل في ليبيا يظل ثابتاً لدى أردوغان، سواء بإرسال الأسلحة لحكومة السراج، أو بإرسال الإرهابيين للقتال فيها، أو حتى بالتهديد بإرسال قوات تركية إلى طرابلس، خاصة بعد توقيع اتفاقيْ «الحدود البحرية» و«التعاون الأمني» بين أردوغان والسراج، وهما اتفاقان غير شرعيين، ويواجَهان برفض عربي ودولي واسع.
جدير بالذكر أن حكومة أردوغان قد تقدمت بطلب إلى البرلمان التركي للسماح لها بإرسال قوات من الجيش إلى ليبيا، وأن كل هذه العمليات الواسعة بدءاً من إرسال الإرهابيين، مروراً بشراء وإرسال الأسلحة، تقوم بتمويلها دولة أخرى.
يدفعنا ذلك كله إلى القول إن طموحات أردوغان الإمبراطورية أكبر بكثير من إمكانيات بلاده، ويمكن أن تكون بداية نهايته؛ لأن هذه الطموحات تصطدم بالمصالح الحيوية لقوى دولية وإقليمية كبرى في ليبيا، بدءاً من ضرورة القضاء على الإرهاب والهجرة غير الشرعية وبناء دولة مستقلة، ووصولاً إلى الثروة النفطية الضخمة.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"