أسماء بنت أبي بكر.. ذات النطاقين

الصحابة الرواة
00:18 صباحا
قراءة 8 دقائق

أم عبدالله القرشية التيمية، المكية، ثم المدنية، المهاجرة، أبوها أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول خليفة للمسلمين، وأختها لأبيها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبته: عائشة أم المؤمنين، وهي شقيقة عبدالله بن أبي بكر، وزوجة الزبير بن العوام، وأم الخليفة عبدالله بن الزبير أمير المؤمنين.

هي أسماء بنت أبي بكر، كان إسلامها قديماً بمكة، وكانت أسن من عائشة وهي أختها لأبيها، قال أبو نعيم: ولدت قبل التاريخ بسبع وعشرين سنة، وكان عمر أبيها لما ولدت نيفاً وعشرين سنة، وأسلمت بعد سبعة عشر إنساناً، وكانت هي وأختها عائشة وأبوها أبو بكر الصديق، وجدها أبو عتيق، وابنها عبدالله، وزوجها الزبير صحابيين رضي الله عنهم، أمها أم العزى قيلة، ويقال: قتيلة بنت عبدالعزى بن عبد أسعد بن جابر، وقيل: نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.

تزوجت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما من الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي فولدت له عبدالله، وعروة والمنذر وعاصم والمهاجر وخديجة الكبرى وأم الحسن وعائشة، ولم يكن له في الأرض من مال ولا مملوك غير فرسه، فكانت تقوم على خدمة فرسه، وتقوم على حسن التبعل لزوجها خير قيام، وكان غيوراً، فكانت تراعي غيرته، ولنستمع إليها وهي تحكي عن حياتها الزوجية فتقول: تزوجني الزبير وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته، وأسوسه، وأدق النوى الناضجة، وأعلفه وأسقيه الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، فكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ، فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله ومعه نفر من أصحابه، فدعا لي ثم قال إخ إخ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان من أغير الناس، تقول: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت وعرفت غيرتك، فقال الزبير: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني.

دورها في الهجرة

وكانت لها في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مواقف مشهودة، وكانت هي التي صنعت سفرة (وهي طعام المسافر) النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد الهجرة، تقول: صنعت سفرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئاً أربطه به إلا نطاقي، قال: فشقيه باثنين فاربطي بواحد السقاء وبالآخر السفرة، ففعلت، فلذلك سميت ذات النطاقين، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة.

وظلت رضي الله عنها صامدة صابرة، بعد هجرة أبيها مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، حسنة التصرف والتدبير، وضربت المثل في الشجاعة حين أتاهم نفر من قريش، منهم أبو جهل عمرو بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبى بكر؟، تقول: قلتُ: لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشًا خبيثًا، فلطم خدي لطمة خر منها قُرْطي (نوع من حلي الأذن)، ثم انصرفوا.

وكانت تحمل الطعام إلى النبي وأبيها في غار ثور، وواست أهلها، وكان أبوها تركهم من دون مال، وأفاضت عليهم من رعايتها الكثير، وتقول: إنه لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر، حمل أبو بكر معه جميع ماله خمسة آلاف أو ستة آلاف، فأتاني جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: إن هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت: كلا يا أَبَهْ، قد ترك لنا خيراً كثيراً، فعمدت إلى حجارة فجعلتها في كوة في البيت، كان أبو بكر يجعل ماله فيها، وغطيت على الأحجار بثوب، ثم جئت به، فأخذت يده فوضعتها على الثوب، فقلت: ترك لنا هذا، فجعل يجد مس الحجارة من وراء الثوب، فقال: أما إذ ترك لكم هذا فنعم، تقول أسماء: ولا والله ما ترك لنا قليلاً ولا كثيراً.

هاجرت هي وزوجها الزبير إلى المدينة وهي حامل بعبدالله بن الزبير، فوضعته بقباء، أول مقدمهم المدينة، فهاجر وهو جنين، وكان أول مولود في الإسلام بالمدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وحُمِل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقبّله وحنّكه، فكان أول ما دخل جوفه ريقه صلى الله عليه وسلم، وحمله المسلمون وطافوا به المدينة مهللين مكبرين.

سخاؤها ومروياتها

كانت أسماء بنت أبي بكر سخية النفس، ويروى أن عبدالله بن الزبير قال: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء؛ وجودهما مختلف: أما عائشة، فكانت تجمع الشيء إلى الشيء، حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء، فكانت لا تدخر شيئاً لغد، وكانت رضي الله عنها إذا مرضت أعتقت كل مملوك لها.

وكانت رضي الله عنها تؤثر رضا الله تعالى، وتجعل دونه كل رضا، ويروى أن أمها قتيلة بنت عبدالعزى، وكانت مشركة، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، قدمت عليها بهدايا زبيب وسمن وقرظ فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها إلى بيتها، وقالت لأمها: لا أقبلها حتى يأذن لي رسول الله، ولا تدخلي علي، وأرسلت من فورها إلى أختها عائشة، قالت: سلي رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لتدخلها ولتقبل هديتها، فأدخلتها أسماء، وقبلت هديتها، وأنزل الله تبارك وتعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)، إلى قوله: (ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة: 9).

روى لها البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة، ولها في الصحيحين اثنان وعشرون حديثا، وفي سندها ثمانية وخمسون حديثا، وقال ابن حزم في كتابه: (أسماء الصحابة وما لكل واحد منهم من العدد): لها ثمانية وخمسون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدها الرقم 58 في ترتيب الصحابة من حيث الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنها: عبدالله بن عباس (في مسلم)، وابناها عبدالله وعروة (في البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي)، وأحفادها عباد بن عبدالله (في البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة)، وعبدالله بن عروة، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير (في البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة)، وعباد بن حمزة بن عبدالله بن الزبير (في مسلم والنسائي)، ومولاها عبدالله بن كيسان (في البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي وابن ماجة)، وصفية بنت شيبة (في البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة)، وعبدالله بن عبيد الله بن أبى مليكة (في البخاري ومسلم وأبي داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة) ومرزوق الثقفي خادم عبدالله بن الزبير(في الأدب المفرد للبخاري)، وتدرس جد أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي مولى حكيم بن حزام، وطلحة بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبى بكر الصديق، ومسلم القري (في مسلم)، وأبو نوفل بن أبي عقرب (في مسلم)، وأبو واقد الليثي، وغيرهم.

الأم الصابرة

عاشت أسماء بنت أبي بكر إلى أن ولي ابنها عبدالله بن الزبير الخلافة، وكانت لها معه مواقف يتضح منها معدنها النفيس، خاصة لما حاصره الحجاج الثقفي في مكة، وكان ابنها عبدالله يشاورها، وكانت رضي الله عنها تشير عليه، وكانت تقول ما تراه حقا وما تتمناه صدقا، مصرحة بذلك من غير إيماء ولا استحياء، فقد حدث ابن عروة عن أبيه، قال: دخلت أنا وعبدالله بن الزبير على أسماء، قبل قتل ابن الزبير بعشر ليال، وأنها وجعة، فقال عبدالله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعة، قال: إن في الموت لعافية، قالت: لعلك تشتهى موتي، فلذلك تتمناه، فلا تفعل، فالتفتت إلى عبدالله فضحكت، فقالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما أن تقتل فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني عليك، فإياك أن تعرض عليك خصلة لا توافقك فتقبلها كراهية الموت. قال عروة: وإنما عنى ابن الزبير أن يقتل فيحزنها ذلك وكانت ابنة مائة سنة.

دخل عليها عبدالله، بعد أن خذله أنصاره مستيئسين من النصر على الحجاج، فقال لها: يا أماه! ما ترين؟ قد خذلني الناس، وخذلني أهل بيتي، فقالت: لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريما أو مت كريما، فخرج فأسند ظهره إلى الكعبة ومعه نفر يسير، فجعل يقاتل في شجاعة جيش الحجاج، ولما ناداه الحجاج ليقبل الأمان ويدخل في طاعة أمير المؤمنين، دخل على أمه أسماء، فقال لها: إن هذا (يعني الحجاج)، قد أمنني، قالت: يا بني، لا ترض الدنية، فإن الموت لابد منه، قال: إني أخاف أن يمثل بي، قالت: يا بني ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ عندئذ خرج فقاتل قتالا باسلا حتى استشهد، وأقبل عليه الحجاج فجز رأسه، ثم بعث به إلى عبدالملك بن مروان، وصلبه منكسا.

ودخل عبدالله بن عمر المسجد، وذلك حين قتل ابن الزبير وهو مصلوب ومطروح، فقيل له: إن أسماء في ناحية المسجد، فمال إليها، فقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وأما الأرواح عند الله، فاتقي الله، وعليك بالصبر، فقالت: وما يمنعني، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

ومر ابن عمر على عبدالله بن الزبير وهو مصلوب، فقال له: السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد نهيتك عن هذا ثلاثا، أما والله ما علمت إن كنت لصواما، قواما، وصولا للرحم، وإن أمة أنت شرهم لأمة صدق، فلما بلغ ذلك الحجاج أمر به فطرح في مقابر اليهود، ثم أرسل إلى أمه أن تأتيه، فأبت أن تأتيه، فأرسل إليها: لتأتين أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك، فأرسلت إليه: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني، فلما رأى ذلك لبس سبتيه، ثم خرج يتوذف إليها (يمشي مشية فيها اهتزاز وتبختر) حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعبدالله؟، قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، وقد بلغني أنك كنت تعيره بابن ذات النطاقين، وقد والله كنت ذات نطاقين، أما أحدهما، فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، وأما الآخر، فإني كنت أرفع فيه طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي، فأي ذلك ويل أمك عيرته به؟، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أنه سيخرج من ثقيف رجلان، كذاب، ومبير، فأما الكذاب فابن أبي عبيد، وأما المبير فأنت، قال: فانصرف عنها ولم يراجعها.

وظلت تتمنى ألا تموت حتى يدفع إليها ابنها لتغسله وتدفنه، حتى جاء كتاب عبدالملك بن مروان أن يدفع بعبدالله إلى أهله، فأتي به أسماء فغسلته وطيبته ثم حنطته، وصلت عليه ثم دفنته، ثم ماتت بعده بأيام في آخر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكانت قد فقدت بصرها، واختلف في مكثها بعد ابنها عبدالله، فقيل: عاشت بعده عشرة أيام، وقيل: عشرين، وقيل: بضعة وعشرين يوما، وقد بلغت مائة سنة، ولم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل، وكانت آخر من مات من المهاجرين والمهاجرات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"