إنكار السنة.. جريمة

وما ينطق عن الهوى
03:04 صباحا
قراءة 5 دقائق

‮‬تعرضت السنة في‮ ‬القديم لهجمات بعض الفرق الإسلامية الخارجة على سنن الحق، ‬كما تعرضت في‮ ‬العصر الحاضر لهجمات بعض المستشرقين المتعصبين من دعاة التبشير والاستعمار،‮ ‬ابتغاء الفتنة وابتغاء هدم هذا الركن المتين من أركان التشريع الإسلامي‮ ‬الوارف الظلال،‮ ‬وتابعهم على ذلك بعض المؤلفين من أبناء أمتنا،‮ ‬اغتراراً بما‮ ‬يضفيه أولئك المستشرقون على بحوثهم من زخارف علمية لا تثبت أمام النقد العلمي‮ ‬النزيه،‮ ‬أو اندفاعاً‮ ‬وراء ميول نفسية وشبهات فكرية لم‮ ‬يحاولوا تمحيصها على ضوء ما بين أيديهم من تراث السلف وبحوث العلماء الراسخين،‮ حيث صادف رأي‮ ‬المستشرقين في‮ ‬السنة هوى كامناً في‮ ‬نفوس هؤلاء،‮ ‬فضربوا على الوتر،‮ ‬وغنوا بذلك الحداء‮.‬
‮‬يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتابه‮ (‬السنة قبل التدوين‮)‬،‮ «جرت سنة الله تعالى في‮ ‬خلقه أن‮ ‬يختلف الناس في‮ ‬تقبل دعوات الرسل،‮ ‬والأخذ بأسباب الهداية والصلاح مهما قامت الدلائل ووضحت البينات،‮ (‬ولا‮ ‬يزالون مختلفين‮. ‬إلا من رحم ربك،‮ ‬ولذلك خلقهم‮)‬،‮ ‬فمنهم من‮ ‬يستجيب لداعي‮ ‬الخير مسرعاً مطمئناً،‮ ‬ويتجنب مزالق الجهل والخسران،‮ ‬ومنهم من‮ ‬يركب رأسه ويتبع هواه ويضل عن سواء السبيل‮: (‬ولقد بعثنا في‮ ‬كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة‮)‬،‮ (‬وكذلك جعلنا لكل نبي‮ ‬عدوا شياطين الإنس والجن‮ ‬يوحي‮ ‬بعضهم إلى بعض زخرف القول‮ ‬غرورا‮. ‬ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما‮ ‬يفترون‮)‬،‮ (‬يا حسرة على العباد ما‮ ‬يأتيهم من رسول إلا كانوا به‮ ‬يستهزئون‮».‬

أوهام الطاعنين

‮ ‬وقد ابتلي المسلمون في‮ ‬كل العصور بمن‮ ‬يحاول صرفهم عن الإسلام،‮ ‬تارة بالطعن في‮ ‬كتابه،‮ ‬وأخرى بمحاولة انتقاصه من أطرافه،‮ ‬بالطعن في‮ ‬السنة التي‮ ‬تفصل ما أجمل منه،‮ ‬وتوضح ما خفي،‮ ‬وكأنهم حين وجدوا أن القرآن جبل شامخ لا‮ ‬يلين،‮ ‬ورجعوا بعد العناء بخفي‮ ‬حنين‮ ظنوا أنهم قادرون على النيل منه بتوهين السنة التي‮ ‬هي‮ ‬عماد بيانه،‮ ‬فسلكوا لذلك طرقاً،‮ ‬وتكلفوا شططا،‮ ‬فمنهم من تجنى على الرواة وطعن في‮ ‬عدالتهم وصدقهم،‮ ‬ومنهم من طعن في‮ ‬متن الحديث فأنكر منه ما لم‮ ‬يوافق هواه،‮ ‬ومنهم من ادعى انقطاع الصلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وما‮ ‬يروى عنه وتعذر تمييز الصحيح منه من السقيم،‮ ‬لإهمال تدوينه نحو قرنين من الزمان،‮ ‬وانتشار وضع الحديث انتصاراً‮ ‬لرأي‮ ‬أو إبطالاً لمذهب،‮ ‬فدعا إلى إهمال الحديث جملة والاكتفاء بالقرآن الكريم،‮ ‬ومن المؤسف حقا أن‮ ‬يقول بهذا الرأي‮ ‬من‮ ‬يزعم أنه من المسلمين‮.‬
‮ ‬ولكن العلي‮ ‬القدير الذي‮ ‬تكفل بحفظ كتابه وأصول دينه بقوله‮: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» كان‮ ‬يمنح معونته وتوفيقه دائماً‮ ‬للمتقين المخلصين،‮ ‬ويخذل أعداءه المعاندين‮: ‬«ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به‮ ‬يستهزئون»،‮ ‬«وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‮ ‬إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في‮ ‬أمنيته فينسخ الله ما‮ ‬يلقي‮ ‬الشيطان ثم‮ ‬يحكم الله آياته والله عليم حكيم»،‮ ‬«ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين‮، ‬إنهم لهم المنصورون‮، ‬وإن جندنا لهم الغالبون». فلهذا هيأ لدينه في‮ ‬كل العصور من‮ ‬يرد كيد الطاعنين في‮ ‬نحورهم،‮ ‬وهيأ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان‮ من عني بالدفاع عنها بعد البحث في‮ ‬سندها ومتنها،‮ ‬بتعرف أحوال رواتها،‮ ‬وتمييز صحيحها من سقيمها،‮ ‬ثم حفظها تارة في‮ ‬الصدور،‮ ‬وأخرى في‮ ‬السطور‮.‬

طريقة الاعتدال

‮ لقد كان المسلمون بين أن‮ ‬يدفعهم الحرص على سنة نبيهم إلى تقبل كل ما‮ ‬يروى حتى لا‮ ‬يفوتهم ما صح منها،‮ ‬وأن‮ ‬يتأثروا بشبهات المضللين فيرفضونها كلها حذراً‮ ‬من الأخذ بالموضوع والوقوع في‮ ‬الباطل،‮ ‬ولكن الله جنبهم الخطتين،‮ ‬وعصمهم من الوقوع في‮ ‬الورطتين،‮ ‬ووفقهم إلى ‬طريقة الاعتدال البعيدة عن التعصب الأعمى والتحامل الذميم،‮ ‬طريقة الفحص والتمحيص للسند والمتن،‮ ‬ووضع القواعد العلمية الصحيحة لمعرفة من‮ ‬يقبل ومن لا‮ ‬يقبل من الرواة،‮ ‬وما‮ ‬يقبل وما‮ ‬يرد من الأحاديث،‮ ‬وبهذا ميزوا الخبيث من الطيب،‮ ‬ونالت السنة بجهودهم ما لم‮ ‬يعهد في‮ ‬شريعة من الشرائع،‮ ‬ولا في‮ ‬نص من النصوص‮ ‬غير الكتاب الكريم‮.‬
‮ ‬ويذكر المفكر الإسلامي‮ ‬الدكتور محمد عمارة في‮ ‬كتاب‮ (‬حقائق وشبهات حول السنة النبوية‮)‬،‮ ‬أن جريمة إنكار السنة النبوية الحقيقة أصبحت أبعادها وآثارها أوسع وأخطر مما‮ ‬يتصور الكثيرون،‮ ‬فهي‮ ‬لا تقف عند حدود الاعتراض على عدد من المرويات‮ ‬قل عددها أو كثر‮، فالنظر في‮ ‬السنة النبوية،‮ ‬والتمييز بين ما روي‮ ‬فيها،‮ ‬والترجيح بين هذه المرويات،‮ ‬والأخذ والرد،‮ ‬وفقاً‮ ‬لقواعد‮ (‬الرواية‮) ‬و(الدراية‮)‬،‮ ‬وتعديل الرواة،‮ ‬ونقد المتون،‮ ‬كل ذلك‮ (‬فن‮) ‬له علماؤه وأعلامه على امتداد تاريخ الإسلام،‮ ‬ولم‮ ‬يقل أحد من العلماء العقلاء إن الكلمة الأخيرة قد قيلت في‮ ‬هذا الميدان‮.‬
‮ ‬لكن ما‮ ‬يريده المنكرون للسنة النبوية هو أمر أخطر من ذلك بكثير،‮ فهم بهذا الإنكار للسنة‮ ‬إنما‮ ‬يصورون رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وكأنه مجرد‮ (‬ساعي‮ ‬بريد‮)‬،‮ ‬بلغ‮ ‬الوحي،‮ ‬ثم صمت،‮ ‬مع أن الوحي‮ ‬القرآني‮ ‬ذاته‮ ‬يعلن أن الله سبحانه وتعالى قد كلف الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان هذا البلاغ‮.. ‬«وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم‮ ‬يتفكرون» (سورة النحل الآية‮:‬ 44‮).

مظلة القرآنيين

إنهم يحاولون خلخلة أبنية سائر علوم الحضارة الإسلامية،‮ ‬فلا فقه‮ ‬في‮ ‬العبادات والمعاملات‮، ولا نحو،‮ ‬ولا صرف،‮ ‬ولا لغة،‮ ‬ولا بلاغة،‮ ‬ولا قواميس،‮ ‬ولا اكتمال لعلوم التزكية والقلوب والسلوك والقيم والأخلاق،‮ ‬ومعايير المقبول والمرفوض في‮ ‬العادات والتقاليد والأعراف،‮ ولا بقاء ولا استقامة لأي‮ ‬من هذه العلوم والفنون إلا بالسنة التي‮ ‬صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‮.‬
« إن القارئ لأي‮ ‬باب من أبواب أي‮ ‬علم من علوم الحضارة الإسلامية‮ ‬الشرعية منها والمدنية،‮ ‬الإنسانية منها والاجتماعية،‮ ‬بل والناظر في‮ ‬السنن التي‮ ‬تحكم الكون والوجود،‮ ‬وتضبط حركة الاجتماع الإنساني،‮ ‬وتكون معالم الرؤية الإسلامية للكون،‮ ‬والمبدأ،‮ ‬والمسيرة،‮ ‬والمصير‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬تميز الحضارة الإسلامية عن‮ ‬غيرها من الحضارات،‮ ‬بل وحتى الباحث عن معنى كلمة في‮ ‬قاموس من القواميس،‮ ‬أو مصطلح في‮ ‬كشاف من كشافات المصطلحات،‮ ‬سيجد كل هؤلاء السنة النبوية روحاً سارية في‮ ‬كل مناحي‮ ‬هذه العلوم والفنون والآداب والفلسفات‮.‬
‮ ‬ولهذه الحقيقة،‮ ‬حقيقة خطر وعظم الجرم الذي‮ ‬يرتكبه المنكرون للسنة النبوية،‮ ‬جرم تجريد الأمة من حضارتها وثقافتها ومدنيتها وتاريخها،‮ ‬وقيمها،‮ فإن الأوان قد آن لتجريد هؤلاء المنكرين للسنة النبوية من المظلة الخادعة التي‮ ‬بها‮ ‬يستظلون،‮ ‬وهي مظلة‮: «‬القرآنيين‮».‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"