تعرضت السنة في القديم لهجمات بعض الفرق الإسلامية الخارجة على سنن الحق، كما تعرضت في العصر الحاضر لهجمات بعض المستشرقين المتعصبين من دعاة التبشير والاستعمار، ابتغاء الفتنة وابتغاء هدم هذا الركن المتين من أركان التشريع الإسلامي الوارف الظلال، وتابعهم على ذلك بعض المؤلفين من أبناء أمتنا، اغتراراً بما يضفيه أولئك المستشرقون على بحوثهم من زخارف علمية لا تثبت أمام النقد العلمي النزيه، أو اندفاعاً وراء ميول نفسية وشبهات فكرية لم يحاولوا تمحيصها على ضوء ما بين أيديهم من تراث السلف وبحوث العلماء الراسخين، حيث صادف رأي المستشرقين في السنة هوى كامناً في نفوس هؤلاء، فضربوا على الوتر، وغنوا بذلك الحداء.
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه (السنة قبل التدوين)، «جرت سنة الله تعالى في خلقه أن يختلف الناس في تقبل دعوات الرسل، والأخذ بأسباب الهداية والصلاح مهما قامت الدلائل ووضحت البينات، (ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم)، فمنهم من يستجيب لداعي الخير مسرعاً مطمئناً، ويتجنب مزالق الجهل والخسران، ومنهم من يركب رأسه ويتبع هواه ويضل عن سواء السبيل: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة)، (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون».
أوهام الطاعنين
وقد ابتلي المسلمون في كل العصور بمن يحاول صرفهم عن الإسلام، تارة بالطعن في كتابه، وأخرى بمحاولة انتقاصه من أطرافه، بالطعن في السنة التي تفصل ما أجمل منه، وتوضح ما خفي، وكأنهم حين وجدوا أن القرآن جبل شامخ لا يلين، ورجعوا بعد العناء بخفي حنين ظنوا أنهم قادرون على النيل منه بتوهين السنة التي هي عماد بيانه، فسلكوا لذلك طرقاً، وتكلفوا شططا، فمنهم من تجنى على الرواة وطعن في عدالتهم وصدقهم، ومنهم من طعن في متن الحديث فأنكر منه ما لم يوافق هواه، ومنهم من ادعى انقطاع الصلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وما يروى عنه وتعذر تمييز الصحيح منه من السقيم، لإهمال تدوينه نحو قرنين من الزمان، وانتشار وضع الحديث انتصاراً لرأي أو إبطالاً لمذهب، فدعا إلى إهمال الحديث جملة والاكتفاء بالقرآن الكريم، ومن المؤسف حقا أن يقول بهذا الرأي من يزعم أنه من المسلمين.
ولكن العلي القدير الذي تكفل بحفظ كتابه وأصول دينه بقوله: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» كان يمنح معونته وتوفيقه دائماً للمتقين المخلصين، ويخذل أعداءه المعاندين: «ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون»، «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم»، «ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون». فلهذا هيأ لدينه في كل العصور من يرد كيد الطاعنين في نحورهم، وهيأ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان من عني بالدفاع عنها بعد البحث في سندها ومتنها، بتعرف أحوال رواتها، وتمييز صحيحها من سقيمها، ثم حفظها تارة في الصدور، وأخرى في السطور.
طريقة الاعتدال
لقد كان المسلمون بين أن يدفعهم الحرص على سنة نبيهم إلى تقبل كل ما يروى حتى لا يفوتهم ما صح منها، وأن يتأثروا بشبهات المضللين فيرفضونها كلها حذراً من الأخذ بالموضوع والوقوع في الباطل، ولكن الله جنبهم الخطتين، وعصمهم من الوقوع في الورطتين، ووفقهم إلى طريقة الاعتدال البعيدة عن التعصب الأعمى والتحامل الذميم، طريقة الفحص والتمحيص للسند والمتن، ووضع القواعد العلمية الصحيحة لمعرفة من يقبل ومن لا يقبل من الرواة، وما يقبل وما يرد من الأحاديث، وبهذا ميزوا الخبيث من الطيب، ونالت السنة بجهودهم ما لم يعهد في شريعة من الشرائع، ولا في نص من النصوص غير الكتاب الكريم.
ويذكر المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة في كتاب (حقائق وشبهات حول السنة النبوية)، أن جريمة إنكار السنة النبوية الحقيقة أصبحت أبعادها وآثارها أوسع وأخطر مما يتصور الكثيرون، فهي لا تقف عند حدود الاعتراض على عدد من المرويات قل عددها أو كثر، فالنظر في السنة النبوية، والتمييز بين ما روي فيها، والترجيح بين هذه المرويات، والأخذ والرد، وفقاً لقواعد (الرواية) و(الدراية)، وتعديل الرواة، ونقد المتون، كل ذلك (فن) له علماؤه وأعلامه على امتداد تاريخ الإسلام، ولم يقل أحد من العلماء العقلاء إن الكلمة الأخيرة قد قيلت في هذا الميدان.
لكن ما يريده المنكرون للسنة النبوية هو أمر أخطر من ذلك بكثير، فهم بهذا الإنكار للسنة إنما يصورون رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وكأنه مجرد (ساعي بريد)، بلغ الوحي، ثم صمت، مع أن الوحي القرآني ذاته يعلن أن الله سبحانه وتعالى قد كلف الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان هذا البلاغ.. «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» (سورة النحل الآية: 44).
مظلة القرآنيين
إنهم يحاولون خلخلة أبنية سائر علوم الحضارة الإسلامية، فلا فقه في العبادات والمعاملات، ولا نحو، ولا صرف، ولا لغة، ولا بلاغة، ولا قواميس، ولا اكتمال لعلوم التزكية والقلوب والسلوك والقيم والأخلاق، ومعايير المقبول والمرفوض في العادات والتقاليد والأعراف، ولا بقاء ولا استقامة لأي من هذه العلوم والفنون إلا بالسنة التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
« إن القارئ لأي باب من أبواب أي علم من علوم الحضارة الإسلامية الشرعية منها والمدنية، الإنسانية منها والاجتماعية، بل والناظر في السنن التي تحكم الكون والوجود، وتضبط حركة الاجتماع الإنساني، وتكون معالم الرؤية الإسلامية للكون، والمبدأ، والمسيرة، والمصير وهي التي تميز الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات، بل وحتى الباحث عن معنى كلمة في قاموس من القواميس، أو مصطلح في كشاف من كشافات المصطلحات، سيجد كل هؤلاء السنة النبوية روحاً سارية في كل مناحي هذه العلوم والفنون والآداب والفلسفات.
ولهذه الحقيقة، حقيقة خطر وعظم الجرم الذي يرتكبه المنكرون للسنة النبوية، جرم تجريد الأمة من حضارتها وثقافتها ومدنيتها وتاريخها، وقيمها، فإن الأوان قد آن لتجريد هؤلاء المنكرين للسنة النبوية من المظلة الخادعة التي بها يستظلون، وهي مظلة: «القرآنيين».