الإعلام الفلسطيني مقاومة تاريخية بالورقة والقلم

يواجه تحديات صعبة على مدار الساعة
13:41 مساء
قراءة 8 دقائق

يخوض الإعلام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، معارك سياسية وثقافية ومهنية متواصلة وغير تقليدية في سياق التحديات الصعبة والمعقدة التي يواجهها على مدار الساعة، في بُعدين متلازمين. الأول كون هذا الإعلام ذاته لا يزال في قلب الصراع المباشر واليومي مع الاحتلال الإسرائيلي. والثاني في حرصه الحضاري على مواكبة عمليات التطوير والتحديث لأدواته ومناهجه ووسائله، وهو في هذا القلب المتفجر والمعرض في كل لحظة للضرب والقمع والتدمير من قبل العدو.

من أجل الوقوف على تداعيات هذين البُعدين، وأهميتهما في الوصول إلى عمق الخطاب الإعلامي الفلسطيني، لا بد من العودة إلى بواكير النشأة لهذا الخطاب، والظروف الاستثنائية التي أحاطت به، ومدى تأثير هذه الظروف في الماضي، وإلى حينه، ضمن قراءة نقدية لمعايير المهنية والتعددية والحيادية فيه.

منذ الأيام الأولى لاحتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد الخامس من حزيران/يونيو ،1967 حاولت إسرائيل أن تفرض صحيفتها الاحتلالية اليوم الناطقة باللغة العربية على الفلسطينيين الذين لم يكن لديهم أي صحف خاصة بهم، في وقت كانت فيه كل الصحف العربية والأجنبية (الأوروبية والأمريكية على سبيل المثال)، إلى جانب صحيفة الاتحاد التي تصدر عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي في حيفا، ممنوعة من الوصول إليهم. غير أن صحيفة اليوم التي كانت تعج بالخطاب الاحتلالي المعادي، فشلت في اكتساب أي قارئ فلسطيني لها، باعتبارها جزءا من القوة العدوانية للاحتلال نفسه. وحسبت إسرائيل أن تغيير بعض مفردات ومصطلحات خطابها الإعلامي، قد يوفر لها فرصة الوصول إلى القراء في الأرض المحتلة، فأوقفت اليوم، وأصدرت بدلا منها صحيفة الأنباء، في سياق ذلك التغيير الوهمي. إلا أن هذه الصحيفة أيضا، باءت بفشل ذريع، مما اضطر القائمين عليها إلى إيقافها. ولم تكرر إسرائيل المحاولة في هذا المجال مرة أخرى. واعتبارا من العام 1968 كانت صحيفة القدس الفلسطينية تمكنت من الحصول على ترخيص إسرائيلي، لتعود إلى الصدور بثوب جديد في مدينة القدس، في امتداد لما كان من تاريخها السابق في الأعوام الماضية. والتفّ الفلسطينيون حول هذه الصحيفة، مما حفز بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية إلى التنبه لأهمية إصدار صحف لها في الأرض المحتلة، ولو من خلال قوانين الاحتلال ذاته. وفي العام 1972 صدرت صحيفتا الفجر والشعب في مدينة القدس أيضا. ثم تتابعت الإصدارات لصحف ومجلات فلسطينية أخرى عديدة، كلها تقريبا في مدينة القدس. أما سبب اختيار هذه المدينة بالذات (أو شطرها الشرقي على الأصح) فيرجع إلى أن إسرائيل كانت قد ضمت هذا الشطر إليها، تحت مسماها يروشلايم العاصمة الموحدة لها، وشملته بقوانينها الإسرائيلية.

حاول الإعلام الفلسطيني المستجد تحت سقف الاحتلال أن يستثمر هذه القوانين لمصلحته. إلا أن الرقابة الإسرائيلية العسكرية الصارمة كانت له بالمرصاد، وفق قوانين الطوارئ البريطانية الانتدابية (الاستعمارية) القديمة في العام ،1945 والتي أبقت عليها إسرائيل بما يتعلق بتوجيه القمع المبرمج لهذه الإصدارات الفلسطينية على وجه التحديد.

إلى ذلك، نشأ ما يسمى ب توازن النقائض في الموقف الإسرائيلي من هذا الإعلام من جهة، والموقف الفلسطيني من القوانين الإسرائيلية المتاحة بشأنه من جهة ثانية. فقد رأت إسرائيل أنها تحقق فوائد متنوعة من قراءتها ودراستها الاستخبارية والسيكولوجية لهذا الإعلام المطّوّع (وربما ما خمنت أنه المروّض بين يديها) لمصلحة احتلالها. ناهيك عما حسبت أنه سيكون بديلا لأي إعلام فلسطيني سري تحت الأرض يخدم المقاومة، فيما لو منعته من الظهور العلني. وبالمقابل، وجدت القوى الوطنية الفلسطينية في تلك القوانين المتوافرة لها على علاتها الكثيرة، فرصتها لاختراقها والتعامل معها بذكاء واقعي، لبناء رأي عام وطني فلسطيني، متفهم بالضرورة وعلى مر الأيام، للرقابة الإسرائيلية المفروضة عليه، دون أن يتحول هذا الفهم لديه، إلى قبول أو خضوع.

ولكن هذا التوازن بقي محصورا في الإعلام المقروء فقط. فلم تسمح إسرائيل بوجود أدنى إعلام فلسطيني مرئي أو مسموع، مما اضطر المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى التكيف مع الواقع، باعتمادهم على الإذاعات والقنوات التلفزيونية العربية والأجنبية، بما فيها الإسرائيلية.

ومع نشوء السلطة الوطنية في العام ،1994 قفز الإعلام الفلسطيني بكل أشكاله المقروءة والمسموعة والمرئية، وصولا إلى الألكترونية منها، نحو تاريخ جديد ومغاير تماما لكل ما سبق، في مسيرته، وفي قدراته ومنجزاته.

فرضت الظروف الاستثنائية التي أحاطت ببواكير هذا الإعلام تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي، مهنية استثنائية مترتبة عنها ومتوافقة معها بالضرورة. فلم يكن بين الفلسطينيين في الأرض المحتلة كوادر صحافية كافية أو قادرة بالمعنى المهني الصحيح، على إصدار الصحف. كما لم يكن في الجامعات الفلسطينية الموجودة أي كليات تعنى بالصحافة. إلا أن هذا النقص الفادح في الكادر، لم يمنع القوى الوطنية من الدخول في التجربة، ومن التعلم في العمل، طالما توافرت الإرادة الصلبة للحصول على صحافة وطنية. إلا أن هذه الحال انعكست بدورها، على شكل جعل من الصحف الصادرة ذاتها، أوراقا خالية تقريبا من المهنية، من جهة، ومتماهية مع العمل السياسي البحت من جهة ثانية. وكأنها كانت في المحصلة، مجرد بيانات ومناشير سياسية لخطاب مضطرب بسبب الرقابة العسكرية التي كانت تمزقه وتفتت فقراته وعباراته.

كانت الأحزاب ممنوعة. وهو ما دفع بفصائل منظمة التحرير إلى أن تجعل من مقار كثير من الصحف ما يشبه مقار لكوادرها الحزبية واجتماعاتها ولقاءاتها. والمحصلة، أن كانت تلك الكوادر نفسها، أو معظمها، هي الكوادر الصحافية في آن، مما أثر في معاني المهنية تأثيراً سلبياً. وفي الوقت نفسه، لم يتوقف الإعلام السري (تحت الأرض) عن نشاطه، عبر عدة أشكال له، مثل المنشورات والبيانات والملصقات، وما أخذ منها وبخاصة في الانتفاضة الأولى (1987-1993)، شكل الكتابة الواسعة والمكثفة على الجدران في كل مكان، وهو ما استحق تسمية صحافة الحيطان المتحررة من كل القيود الرقابية، والمتاحة لكل المواطنين، رغم البطش الشديد الذي مارسته القوات الاحتلالية ضد هذه الصحافة الشعبية البدائية.

غير أن هذه المرحلة لم تدم طويلا. فقد بدأ في السنوات اللاحقة، جيل جديد من الصحافيين يتدفق إلى الصحف، من خلال بعض المعاهد المحلية، وأولئك الخريجون العائدون إلى الأرض المحتلة، من بعض الجامعات العربية، بتخصصات إعلامية متنوعة. إضافة إلى إقامة الدورات المكرسة على أسس وقواعد مهنية، بإشراف أكاديميين متمرسين عملت منظمة التحرير على إرسالهم من الخارج إلى الأرض المحتلة، والتي انخرط في صفوفها عشرات الصحافيين، بمن فيهم أولئك السياسيون القدامى. أذكر أن أحد هؤلاء الأكاديميين الحاصل على شهادة دكتوراه في الصحافة، عمل في صحيفة الفجر لفترة محددة كان يشرف خلالها على التدريب العملي والمباشر للعاملين في هذه الجريدة، وعلى تطبيق معاني ومفاهيم المهنية في أدائهم لمهامهم.

ومع نجاح الصحافيين في إنشاء نقابة خاصة بهم، تعزز مفهوم المهنة في العمل الصحافي، وأصبحت الصحافة بذلك، وفي رعاية النقابة، مهنة مثل غيرها من المهن، ذات قواعد وأسس علمية لا شأن لها بالتوجه السياسي لهذا الصحافي أو ذاك. فالمعيار المهني بالنسبة لها هو الأساس في شرط الانضمام إليها.

ثم ازداد هذا النجاح قوة ورسوخا مع نشوء السلطة الوطنية، وعودة كثير من الصحافيين الفلسطينيين الحاصلين على خبرات واسعة ومعمقة في الصحافة العربية إلى الوطن، مما وفر لمهنة الصحافة بكل أشكالها ومواقعها، في الضفة الغربية وقطاع غزة،استقلالها التام بذاتها، وبقدرتها الحرة على مواكبة التطور والحداثة. ويعتبر مصطلح التعددية من أكثر المصطلحات السياسية والثقافية والإعلامية انتشارا وإلحاحا في المجتمعات المعاصرة، والتي تواجه بخاصة إشكاليات في تحقيق التوافق بين حاجات ومصالح دولها أو أنظمتها السياسية من جانب، وحاجات ومصالح الاثنيات المشكلة لمجتمعات هذه الدول أو الأنظمة من جانب آخر، ما يؤدي أحيانا إلى المقايضة بين هذه الحاجات والمصالح. وما ينتج عن هذه المقايضة من خلخلة في نسيج الدولة/النظام، أو قمع إثني مدمر. وثمة أكثر من تعريف لهذا المصطلح. إلا أنها جميعها تتقارب على التعريف المختصر الذي جاء في موسوعة السياسة (الدكتور عبد الوهاب الكيالي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت):

التعددية مفهوم ليبرالي ينظر إلى المجتمع على أنه متكون من روابط سياسية وغير سياسية متعددة، ذات مصالح مشروعة متفرقة. ويذهب أصحاب هذا المفهوم إلى أن التعدد والاختلاف يحول دون تمركز الحكم، ويساعد على تحقيق المشاركة وتوزّع المنافع.

ولا يختلف هذا التعريف عما جاء بشأن هذا المصطلح أو المفهوم ذاته، في التقرير المهم الذي صدر عن الأمم المتحدة في 15 يوليو/تموز 2004 تحت عنوان التنمية البشرية للعام 2004 الحرية الثقافية في عالم اليوم المتسم بالتعددية. فقد رأى هذا التقرير، وفق معاينات ميدانية عديدة له على امتداد العالم، أن السياسات التي تشجع التعددية على الازدهار، تساهم في منع التجزئة والنزاع، وتفتح الأبواب الواسعة أمام التنمية الناجحة، وتردع مبكرا أي توجهات قمعية لنشوء أنظمة استبدادية. فالتعددية على ذلك، ضرورية لتواصل التنمية وحماية النسيج المجتمعي بكل مكوناته المتنوعة والمتماسكة في آن، وصولا بهذا كله إلى الحكم الديمقراطي.

والآن، كيف نرى هذا الشأن كله، في الاعلام الفلسطيني؟

أحسب أنه من السهولة التأكيد، على أن هذا الإعلام قد قام منذ نشأته الأولى، وعبر مختلف مراحله، وإلى حينه، على مبدأ التعددية، لسبب أولي لا مجال للغفلة عنه، هو أن المجتمع الفلسطيني ذاته ذو نسيج تعددي في تفاعلاته وتطوراته الثقافية على مر العصور، بدءا من أن أرضه هي أرض الرسالات السماوية وشعبه هو الضمير الإنساني لهذه الرسالات، ثم تواصلا مع الثقافات والحضارات المتنوعة التي مرت على فلسطين، والتي شاركت فلسطين نفسها فيها.

أما الصراع الذي لا يزال دائرا على أرض فلسطين، منذ أكثر من قرن، فإنه في الواقع لا يدور حول هذه الرسالات والثقافات والحضارات، وإنما هو في أشد حالاته على الأرض والمصالح الاقتصادية. أو على حق المواطنة الكاملة في وطن حر ومستقل، وضمن دولة ديمقراطية متماسكة ومسالمة. ورغم أنه يأخذ ما بين حين وآخر، شكل الصراع الديني، إلا أنه سرعان ما يختفي هذا الشكل، ليأخذ سمة الصراع القومي والوطني بين القومية العربية من جهة، والصهيونية من جهة ثانية. وبين الوطنية الفلسطينية من جانب، وإسرائيل الاحتلالية الاستيطانية من جانب آخر.

استطاع الإعلام الفلسطيني أن يعكس هذه التعددية، وأن يتوافق معها، وأن يعمل أيضا على حمايتها، وفق إمكاناته المتوافرة. ووجد في هذه التعددية سندا له في صراعه من أجل مصالحه وحقوقه التي اغتصبها الطرف الآخر الذي هو الاحتلال الإسرائيلي المعادي للشرعية بكل أشكالها. وفي سبيل استعادة هذه المصالح وهذه الحقوق المدعومة من تلك الشرعية دون أدنى ارتباك أو غموض، يمتلك الإعلام الفلسطيني خبرة واسعة وعميقة في تطبيق مفهوم التعددية على عدة مستويات تبدو واضحة وجلية في مختلف مواقعه وطرائقه ومنتجاته.

وحرص الإعلام الفلسطيني على ترسيخ هذه الحماية لذاته، بمشقة كبيرة. فهو من جهة يواجه قوة معادية له (الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني) على مدار الساعة، تعمل في كثير من الأحيان على منعه (إلى حد القتل أو الضرب أو الاعتقال أحيانا) من الوصول إلى مواقع الأحداث، وإلى المعلومات اللازمة له، كما تعمل في الوقت نفسه، على محاولة إغراقه بسيل كاذب (أو مصطنع )من الأخبار والروايات، تحت مسماها الدارج الحرب النفسية في هذه الحال، ناهيك عن قيام هذه القوة المدججة بالسلاح، بتدمير ونسف بعض المقار والمكاتب الصحافية حين اجتياحها لبعض المدن. وهو من جهة ثانية، يجتهد في التمييز الواعي بين مفهوم التعبئة الوطنية اللازمة والضرورية للمواطنين الصامدين تحت الاحتلال، وحقهم المشروع في المقاومة، وبين مسمى التحريض الدعائي الذي قد يسد الطريق أمام الحيادية الإعلامية عن العمل الصحيح والموضوعي، وحتى عن التعبئة وعن خوض غمار الحرب النفسية على أسس علمية وحقائق ساطعة.

ويجدر التأكيد على أن الإعلام الفلسطيني الذي تسارع تطوره مع نشوء السلطة الوطنية ومكونات قوانينها بما فيها قانون المطبوعات، وثبات نقابة الصحافيين على دورها المهني والتعددي، وسعيها لكل ما يدعم حرية التعبير، ويحمي حقوق الصحافيين، هو إعلام حيادي في مجمله، بقدر ما هو وطني منفتح على كل الأطراف، في أدق تفاصيله.

وإذا كانت الفصائلية في سياقها الإعلامي، قد تطرح للوهلة الأولى، صورة مغايرة لهذا التأكيد الإعلامي العام، من خلال الإعلام الموجّه لكل فصيل، بما يعنيه من انحياز طرف أو فئة ضد طرف أو فئة أخرى، وما يستتبع من تحريض في غالب الأحيان، وهو ما نشهده في هذه المرحلة مع الأسف، بعد الخلاف المتفجر بين فتح وحماس، إثر الأحداث الدامية في قطاع غزة منذ منتصف حزيران/يونيو الماضي، فإن هذه الصورة لا تلبث أن تتراجع إلى الخلف، ولو بعد حين، لمصلحة الإعلام الذي يخاطب الشعب كله، بجميع فصائله وأحزابه وفئاته ومستوياته، ويخاطب الآخر أيضا، والقائم بالتالي، في صميم هذا الخطاب الأوسع انتشارا وتأثيرا، في الصدق والأمانة والموضوعية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"