الانتخابات ترسم مستقبل «القارة العجوز»

04:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
بهاء محمود*

تبدأ في دول الاتحاد الأوروبي ال28 بما فيها بريطانيا اليوم ولثلاثة أيام انتخابات البرلمان الأوروبي الجديد؛ وذلك في فترة حرجة من تاريخه؛ بعد مرور أكثر من 60 عاماً على تأسيسه، في مشهد مملوء بالقلق والخوف من القادم المجهول، تلك المؤسسة الشعبية، التي من المفترض أن يصوت لها حوالي 500 مليون ناخب.

المسارات الحالية في أروقة أوروبا تقول: «إن هناك زحفاً شعبوياً يسير؛ لهدم الاتحاد»، وأن القوميين واليمينيين المتطرفين المتشككين الرافضين للاتحاد، قد يسيطرون على ثلث البرلمان، باحثين عن أي عرقلة للأجندة الأوروبية، راغبين في تغيير الخريطة الحالية، وصنع أخرى بمواصفات جديدة لقوى وليدة تحكم في دول كبرى، لاسيما إيطاليا والنمسا والمجر، وبعيداً عن حجم تماسكهم ووحدتهم وفرصهم في المقاعد، فإن رصد المعارك السياسية التي خلقوها هو الأهم، فبداية هناك معركة أوروبا «فيكتور أوربان» ضد أوروبا «إيمانويل ماكرون»، الشعبوية ضد الإصلاح، الديمقراطية المباشرة اللاليبرالية في مواجهة الديمقراطية الليبرالية، الخوف من التعددية الثقافية في مواجهة البراجماتية الغربية وشعارات التسامح مع الآخر، إضافة إلى أحزاب عريقة تقليدية تواجه أحزاباً وليدة؛ منها: من لم يجرب الحكم ولا السياسة سابقاً؛ ومنها من لا يمتلك إلا الخطاب التحريضي فقط ضد المهاجرين، وضد الإسلام، وضد المؤسسات الحاكمة، وضد المؤسسات الأوروبية، وضد الآخر جملة.
رسم مستقبل أوروبا هو الآخر يعد هدفاً للمعارك، كيف تتحقق العدالة بين الجنسين، كيف يولد دور جديد لأوروبا في العالم، كيف تخرج من حصار روسيا وتبعية أمريكا، من يقود المفوضية الأوروبية «المسيحي الديمقراطي» مانفريد فيبر، أم الاشتراكي «فرانس تيمر مانس»، لا سيما أن كليهما يسعى لشراكة مع إفريقيا أحد مصادر المهاجرين واللاجئين، هل تعمل قوى أحزاب الشعب الأوروبي إلى جانب الديمقراطيين والاشتراكيين والخضر والليبراليين ضد قوى القوميين والمتطرفين؟
البرلمان الجديد يستمر ب751 نائباً من بينها 73 مقعداً لبريطانيا، التي تفترض أن تخرج في نهاية أكتوبر/تشرين الأول القادم، مع توقعات بفوز حزب بريكست لديها بمقاعد كبيرة، وهي من المفارقات الغريبة أن يتقدم حزب مناهض لأوروبا في انتخابات شعبية أوروبية تساهم في رسم سياسات الاتحاد.
تاريخياً، تتسم انتخابات البرلمان الأوروبي، برغبة في معاقبة السلطات الحاكمة على المستوى الوطني وتوصيل رسائل مزدوجة للحكومات ولبروكسل ذاتها، مع رغبة أخرى في الامتناع عن المشاركة السياسية، وهي ازدواجية لم يستطع قادة أوروبا فك طلاسمها، حتى مع وجود استطلاعات رأي تتوقع زيادة مشاركة الألمان بفارق حوالي 8% عن انتخابات 2014، ومن الممكن تفسير ذلك بوجود ألمانيا على رأس أوروبا وإدراكهم الأخطار المحيطة، مع الأخذ في الاعتبار أن ألمانيا ينمو فيها تياران يسيران بالتوازي، تيار شعبوي متطرف يتمثل في «حزب البديل»، والآخر تيار «اليسار الخضر»، وهو ما يعني أن قوتين تدعمان كتلاً مختلفة في البرلمان الأوروبي؛ وذلك يعزز من فرص الانقسام والاستقطاب السياسي، ما لم يكن هناك حل للتوافق على القضايا المشتركة مع بقية الأطراف الأخرى المنافسة والحليفة.

ورغم هذا المشهد المظلم، وأمل اليمين القومي بتحقيق نتائج إيجابية تصل إلى احتمال فوز 173 نائباً ينتمون لتلك المجموعات، لكن الآونة الأخيرة تشهد فضائح وأزمات سياسية، لا سيما التحقيقات في مصادر تمويلهم، مثل استقالة نائب المستشار النمساوي هاينز كريستيان شتراخه، العضو في حزب «الحرية» النمساوي اليميني القومي، على خلفية فضيحة تتصل بسيدة مرتبطة بشخصية روسية، فاوضها «شتراخه»؛ للحصول على دعم روسي مالي، مقابل عقود حكومية. وبالطبع هذه الفضيحة سوف تؤثر في مجرى الانتخابات الأوروبية داخل النمسا إن لم يكن خارجها أيضاً، فهي دلالة على الاستراتيجية الحاكمة لتفكير بعض اليمين المتطرف، ورؤيتهم للمصالح القومية ومدى تعارضها مع مصالحهم الخاصة، ما يطرح تساؤلاً عن مدى استمرارية اليمين المتطرف، وهل هي مرحلة عابرة أم موجات سوف تغرق كل من يقف أمامها.
ويخلق التساؤل فرضيات عديدة، أولها هي استجابة الشارع السياسي وإدراكه المصلحة العامة من دون شعارات قومية ثبت كذبها، وثانيها التعامي عن رسائل الخطر من تفكك الاتحاد الأوروبي، وعدم أخذ بريطانيا وأزمة بريكست عبرة لمن يعتبر. فرضية ثالثة هي موازنة الشارع السياسي والمواطن الأوروبي؛ حيث يسمح للشعبويين أن يكونوا مصدر قلق محدود للكيان الأوروبي، كي يتوحد الموقف من الأحزاب الكبرى وتتم معالجة الأزمات الهيكلية المستمرة في الاتحاد الأوروبي، من هنا وعند النظر لحجم القوى المتطرفة، بداية من بريطانيا التي لديها 24 نائباً معارضاً للاتحاد الأوروبي من حزب الاستقلال، والمجري فيكتور أوربان، وبولندا وحكومتها المحافظة بزعامة ياروسلاف كاتشينسكى، التي تمتلك 14 نائباً أوروبياً من أصل 51 مخصصين لبولندا، نهاية بألمانيا وحزب البديل، لتكن المحصلة أكثر من نصف دول الاتحاد الأوروبي يغزوها الشعبويون، ويملكون حوالي 284 مقعداً من أصل 751.
ورغم هذا العدد الكبير؛ لكن تفرقهم على عدة كتل داخل البرلمان الأوروبي؛ ساهم في تشتت قواهم، وعدم قدرتهم على اتخاذ موقف موحد، لاسيما تعارض المصالح الوطنية، والأيديولوجيات وحتى الرؤى تجاه نفس القضايا ذات الاهتمام المشترك، وتبقى الرهانات الكبرى في الانتخابات القادمة، نسب التصويت من جانب، السترات الصفراء في فرنسا من جانب آخر، وكذلك معضلة بريكست وتراجع حزبي العمال والمحافظين في الانتخابات المحلية الماضية، وبزوغ نجم حزب بريكست بقيادة نايجل فراج، لاسيما نشاط بوريس جونسون في إزاحة تريزا ماي من الحكومة، وفضيحة الحزب الحاكم في النمسا، وفضلاً عن ذلك كله قدرة جبهة سالفيني الإيطالية على توحيد قوى الشعبويين، وهي بالطبع سياقات قد تبدو غير مترابطة؛ لكنها في المحصلة مؤثرة في سياق الانتخابات الأوروبية وفرص الشعبويين في مواجهة الأحزاب العريقة.
وفي سياق متصل من الممكن أن تمثل الانتخابات انتهاء سيطرة الكتلتين الكبيرتين من «الحزب الشعبي الأوروبي» في اليمين المحافظ والاشتراكيين والديمقراطيين الاجتماعيين؛ وذلك في ظل توقعات تُنبئ بخسارة كل منهما حوالي ثلاثين مقعداً على الأقل، لكنهما ستظلان قوتين كبريين مؤثرتين في البنية التشريعية، وهذا الافتراض يصب في مصلحة الليبراليين الذين يطمحون بأن يصبحوا الكتلة الثالثة في البرلمان الأوروبي بدعم حزب ماكرون، أو حزب «سيودادانوس» الإسباني، وبصحة هذا الفرض يمكن كسر شوكة الشعبويين ومنعهم من عرقلة عمل الاتحاد الأوروبي.

* كاتب مصري
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"