الجزائر تكتب صفحة جديدة

04:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

تتعلق أنظار العالم بالشعب الجزائري وهو يكتب صفحة جديدة من تاريخه- وبالأحرى من مستقبله-؛ بعد أن أعلن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة استقالته، وعدم ترشحه لعهدة خامسة جديدة؛ بعد تظاهرات شعبية عارمة في مختلف أرجاء الجزائر، ووقوف الجيش إلى جانب المتظاهرين ومطالبهم.
الاهتمام العربي والإقليمي والدولي بالجزائر، وما يجري فيها طبيعي تماماً؛ فهي دولة كبيرة غنية بثرواتها الضخمة من النفط والغاز، وهي تحتل موقعاً استراتيجياً مهماً على ساحل المتوسط في مواجهة السواحل الأوروبية مباشرة، وتمتلك جيشاً قوياً قادراً على التأثير في إقليمها، كما أن لديها عدة ملايين من المهاجرين في فرنسا- أساساً- ودول أوروبية عديدة يتأثرون بشدة بما يحدث في بلادهم، وينعكس على أمزجتهم وسلوكهم في بلدان اللجوء. وهي أيضاً مجاورة لمركزين كبيرين لنفوذ «الإخوان المسلمين»، ويرتع الإرهابيون حوله في الصحراء الإفريقية الكبرى، وصولاً إلى نيجيريا، بينما كانت الجزائر نفسها مسرحاً لتجربة أصولية وإرهابية كبرى في تسعينات القرن المنقضي (العشرية السوداء)، تمكنت من القضاء عليها بكُلفة فادحة، وبعد جهد جهيد. ووسط كل هذه الحقائق والمخاطر؛ من البديهي أن يتسم سؤال: «الجزائر.. إلى أين بعد بوتفليقة ؟» بأهمية كبرى عربياً وإقليمياً ودولياً تظل الإجابة غير بسيطة، خاصة أن قوى مؤثرة، ودولاً كبرى تحاول العبث في الساحة الجزائرية، واستغلال «الحراك الشعبي» وتأثيراته على استقرار المجتمع ومناعته الفكرية والسياسية.
إلا أن تركيبة المجتمع الجزائري الخاصة، والدور التاريخي للجيش الجزائري في حياة البلاد، والطريقة التي تعامل بها مع «الحراك الشعبي» ومطالبه، ثم مع قضية استقالة بوتفليقة، وإطاحة حاشيته؛ تقدم لنا أساساً صلباً بما فيه الكفاية؛ للرد على الأسئلة التي سبق طرحها.
نعم.. لقد اكتسب الجيش الجزائري احتراماً كبيراً؛ نتيجة للطريقة، التي أدار بها الأزمة، وأثبت أنه يمثل ركيزة يمكن الاستناد إليها؛ للمحافظة على الدولة الوطنية الجزائرية، ومواجهة المؤامرات عليها، وتحقيق الكثير من مطالب «الحراك الشعبي»- إن لم يكن أهمها- في إطار سلمي يتحقق فيه التغيير دون فوضى وإراقة دماء، وأيضاً في إطار دستوري.
وبديهي أن ما برهن عليه الشعب الجزائري من تحضر وانضباط مبهرين، وحرص على السلم الاجتماعي، وعدم انسياقه لدعاوى التطرف والفوضى.. كل ذلك يمثل الطرف الآخر المكافئ من المعادلة.
لقد أعلن الجيش الجزائري منذ بداية «الحراك» احترامه للتظاهر كحق دستوري، وعدم ممارسة أي قمع ضد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، أو الانسياق لأي استفزازات.
وعندما انتقل المتظاهرون من رفض ترشيح بوتفليقة (لعهدة خامسة) إلى المطالبة باستقالته وإطاحة رموز نظامه، وأصبح واضحاً أن هذا تيار شعبي جارف، انتقل الجيش إلى المطالبة بتفعيل المادة (102) من الدستور، التي تقضي بإعلان شغور منصب الرئاسة؛ بسبب عجز الرئيس صحياً، وتولي رئيس مجلس الأمة (المجلس الأعلى للبرلمان) الرئاسة مؤقتاً (لمدة 90 يوماً)، وإجراء انتخابات رئاسية.. دعا الجنرال أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش لاجتماع موسع لقيادات الجيش، وصدر الأمر واضحاً للمجلس الدستوري بإعلان شغور المنصب «فوراً».. وتم تنفيذ الأمر «فوراً» بالفعل، وتوجيه رسالة من المجلس الدستوري لقيادة البرلمان بمجلسيه (الغرفة العليا مجلس الأمة.. والدنيا: المجلس الشعبي الوطني) بشغور منصب الرئاسة؛ للبدء في اتخاذ الإجراءات الدستورية اللازمة.
هذا الموقف أكسب الجيش احتراماً كبيراً، وثقة شعبية عالية، علاوة على ما سبق من أنه نال احتراماً؛ بسبب موقفه من ضمان حق التظاهر وحماية المتظاهرين، وعلاوة على ما يملكه الجيش تاريخياً من احترام؛ بسبب مشاركة أغلب كبار قياداته في الكفاح الوطني المسلح ضد الاحتلال الفرنسي في حينه.. لهذا وجدنا التظاهرات يوم الجمعة التالية لاستقالة بوتفليقة تهتف «الجيش والشعب إخوة»..
وأصبح الجيش برضا شعبي واضح، وبحكم قوته كمؤسسة منظمة ومتماسكة وقوته العسكرية طبعاً؛ اللاعب الأول، والأكثر احتراماً وشعبية على الساحة الجزائرية، كما أصبح يشار إلى قائده رئيس الأركان الجنرال صالح باعتباره رجل الجزائر القوي.
وتكتسب هذه الحقيقة أهمية إضافية من واقع تآكل شعبية أحزاب (الموالاة)؛ بسبب انتشار الفساد في صفوفها، وتبعيتها للسلطة، وفي مقدمتها حزب «جبهة التحرير الوطني» وحزب «التجمع الوطني الديمقراطي»، أكبر أحزاب التحالف الحاكم، كما أن أحزاب المعارضة أضعف من أن تمثل نداً أو منافساً سياسياً أو شعبياً للجيش، بما في ذلك طبعاً أكبرها (حركة مجتمع السلم/‏ حمس) الطبعة الجزائرية من «الإخوان المسلمين».
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن «الحراك الشعبي» قد ولد بصورة جماهيرية عفوية ارتبطت بترشح بوتفليقة (لعهدة خامسة)، ولم يكن لأحزاب المعارضة أي دور في تغييره ولا تحديد مساراته؛ بل تكرر طرد قيادات أحزاب المعارضة من التظاهرات التي تزعمتها قيادات (عفوية) بصورة أساسية.
وقد رفض الجيش أي خروج على الدستور، وتمسك بنقل السلطة، وإجراء الانتخابات الرئاسية بأسرع ما يمكن؛ من خلال المؤسسات المنتخبة الموجودة (خاصة البرلمان بمجلسيه)، وإنفاذ المادة (102) من الدستور، التي تقضي بتولي رئيس مجلس الأمة رئاسة البلاد بصورة مؤقتة، لحين انتخاب رئيس جديد خلال (90 يوماً) الأمر الذي يتيح انتقالاً آمناً وسلمياً (دستورياً).
وحينما أعلنت جماهير المتظاهرين يوم الجمعة، رفضها تولي عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الأمة الحالي؛ بسبب اتهامات الفساد والتواطؤ مع «العصابة»، كما سمى قائد الجيش حاشية بوتفليقة.
من أجل عدم الوقوع في الفراغ الدستوري التأم مجلس الأمة ، وأعلن وفقا للمادة 102 تعيين بن صالح رئيسا مؤقتا للجمهورية لمدة 90 يوما يتم خلالها إجراء انتخابات رئاسية لاختيار رئيس جديد للبلاد ، لكن القرار على ما يبدو لم يكن كافيا إذ تواصلت التظاهرات في عدد من المدن الجزائرية ا ضد بقاء رموز السلطة في الحكم لإدارة المرحلة الإنتقالية. فيما تعهد الجيش بحماية العملية السياسية وتداول السلطة ، وأكد على مواصلة محاربة الفساد ، داعيا القضاء للتحرك ضد الفاسدين.
وعموماً فإن من المتوقع أن يتعاظم دور الجيش في الحياة السياسية؛ نظراً للدور الإيجابي الكبير الذي قام ويقوم به في الفترة الأخيرة، وباعتباره ركيزة للاستقرار، وضمانة لحماية الدولة من الإرهاب المستفحل حولها.

* كاتب صحفي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"