الحقيقة المطلقة وحرية النقد

أوراق ثقافية
05:05 صباحا
قراءة 10 دقائق

الحياة من دون يقظة لا تستأهل عناء عيشها

تومادو كونانك

كيف يمكن للحقيقة المطلقة، وفي أيّ ثوبٍ تزيت به، أن تصبح إرهاباً ومصدراً للأخطاء القاتلة والشرور المدمرة؟ وهل يمكن لتبعات هذه الحقيقة، وعبر انشطارية أخطائها المحتملة دوماً، أن تقود أي مجتمع أو جماعة إلى الهاوية وتصيبهما بمقتل؟ ثم ما هي النسقية الثقافية التي تتشكل عبرها سلطة الحقيقة المطلقة في المجتمع؟ هل أصل الحقيقة هو الشر أم الوهم أم الجهل أم الخطأ، أم هو كل هذا معاً؟ وأيضاً إذا كنا نتحدث عن سلطة للحقيقة، فكيف يمكن لهذه السلطة أن تستحوذ على الحقيقة المطلقة، في غياب حرية الوعي النقدي اللازم لفهمها وردعها؟

هذه الأسئلة المركزية إذاً، ستظل مفتوحةً كالشرايينِ المفتوحةِ، ويمكن لها أن تثير حولها حوارات فكرية وثقافية جذرية ومطولة أيضاً. غير أنني هنا، وبحسب المساحة الممنوحة لي، سأحاول إضاءة بعض الجوانب التي تتعلق بمسألة الحقيقة المطلقة وحرية النقد.

(1)

بالطبع، وكما هو معروف، ليس الحديث عن الحقيقة جديداً، بل هو متجدد على الدوام. فمنذ فجر الحضارات الأولى، والبحث عن حقيقة الذات والآخر ومشكلة الخطأ وعلاقتها العضوية بظهور الحقيقة، كانت من أهم القضايا التي انشغل بها الفكر الفلسفي منذ نشوئه وحتى اليوم. ففي الفكر اللاهوتي في التقليد الغربي اليهودي والمسيحي مثلاً، ظلّ ينظر للإنسان بوصفه جُبلَ من طينةِ الخطيئة، أو الشر المعنوي، كما يسميه بول ريكور. غير أن الخطأ بحد ذاته لا يعتبر كارثة ولا نهاية حياة؛ لأن الخطأ شرط ملازم للوجود، كما يؤكد نيتشه. فالكائن البشري، وبما أنه لم يولد حكيماً ولا فيلسوفاً ولا عالماً وإنما ولد جاهلاً، فهو في سلم ارتقائه المعرفي والعقلي لابد له أن يخطئ ويتعثر في مساره، شريطة أن يدرك أخطاءه ويقوم بتصويبها. فهذه الأخطاء الفردية في النتيجة، تكسبنا خبرةً ووعياً، وتصقلُ مواهبنا ومعارفنا، وتدلّنا على حقيقة ذواتنا وتكشف حقيقة وجودنا في علاقته بمن حولنا. لهذا يقال دوماً، من لا يخطئ لا يتعلّم، ومن يتعلّم فعليه أن يخطئ، لكي يعرف معنى الحقيقة ويتذوق طعمها ويستلذ بنورها ويحافظ على دوامها، من دون أن يتعصب لها أبداً. لأن كل حقيقة في نهاية المطاف هي نسبية. الخطأ إذاً للأفراد بمثابة الحافز للتعلم وأحياناً للندم، برغم هذا فإن البشرية كلّها تدين للخطأ بوصفه الباعث على معرفة الحقيقة في تدرجاتها، كيفما كان شكل هذه الحقيقة ودرجة حجمها ومقدار عظمتها وديمومتها. من هنا يؤكد نيتشه ثانيةً، على أن الخطأ هو شرط المعرفة؛ أي أن الخطأ هو شرط معرفة الحقيقة.

غير أن ما أعنيه هنا بالخطأ المجتمعي حصرياً، ليس هو هذه السلسلة من الأخطاء الفردية التي تحدث يومياً وعلى مدار الساعة في كل مكانٍ وزمان؛ بل تلك التي بإمكانها ومع مرور الوقت أن تتحوّل إلى آليةٍ تداوليةٍ تدخل في سيستم المجتمع نفسه، وتصبح ماكينة تسلطية لتفريخ الأخطاء الفادحة على تعدد مجالاتها وأنواعها. إن الخطأ المجتمعي إذاً، بإمكانه أن يوفر لنفسه السلطة اللازمة لبقائه. لكن سلطة الخطأ هذه قد تقصر أو تطول، وذلك بحسب طبيعة المؤسسة أو المؤسسات المجتمعية التي تتضافر في ما بينها لإنتاج الخطأ، وكذلك اختلاف الظروف ودرجة الوعي لدى أبناء المجتمع الواحد. فهي تطول عندما تتمكّن من خداع الناس بصوابيتها وسلامة مقصديتها، فتقوم بالهيمنة على عقولهم وحواسهم من دون أن يفهموا أو يدركوا مرموزيتها الباطنية وأبعادها الخافية، فينخرطوا في تبنيها والعمل بها من دون مقاومة أو مساءلة أو نقاش. وهي تقصر كذلك، عندما يكون المجتمع أو نخبه المثقفة والمفكرة بالخصوص، على درجة عاليةٍ من الوعي بظاهرة الخطأ التي ما زالت ربما تبحث لها عن موقع في جسم المجتمع، فيقومون بتفسيرها ومقاومتها ورفضها وفضح آليات عملها منذ البداية، قبل أن تتمكّن من نسج شبكتها العنكبوتيّة وتشكيل سلطتها وفرض سيطرتها على الناس، فتضر بحياتهم كما تضر بمستقبلهم المشترك.

(2)

لكن الأدهى من هذا، وبخاصة إذا ما استمرت سلطة الخطأ لفترات طويلة، هو أنها قد تتحوّل إلى كارثة فعلاً عندما تصيب البنى، والتركيبات، والعناصر، والقيم الثقافية التي تأسس عليها المجتمع نفسه، بحيث تنحرف في نهاية المطاف - بمساره إلى ما هو أسوأ وأمرّ من ذلك. ولعلي أشدد هنا، على أن كارثية هذا النوع من الأخطاء، لا تتأتى من الخارج فحسب بل قد تنبجس من جوف النسيج المجتمعي ذاته ومن موروثه أيضاً. وأحياناً، بل في أغلب الأوقات تقريباً، يكون استفحال الخطأ الكارثي نتيجة لتشجيع بعض المجتمعات لها من دون الوعي بها، وذلك نتيجة لما قد يصيبه من غطرسة أو ترهل أو جمود أو تخلف أو فساد أو ظلم أو تشيؤ. ولعل ما يشجع على تكاثر هذه النوعية من الأخطاء، الباهظة الثمن والسرطانية في إصاباتها، وما يوفر لها البيئة المناسبة لكي تتوالد بشكل طبيعي، هو غياب أو منع ممارسة حرية المراقبة النقدية اللازمة والفاضحة لهذه الأخطاء، في وقت تشكلها وانتشارها واستيطانها في خلايا المجتمع الواحد، أو القومية الواحدة، أو العالم برمته.

(3)

من هنا، وفي تحليله لمفهوم الخطأ، يذهب الفيلسوف الفرنسي أدغار موران إلى القول: بأن أي شخص يعتقد بأنه يملك الحقيقة، يصبح عديم الحساسية تجاه الأخطاء التي توجد في منظومته المعتقدية، ويميل إلى اعتبار كل ما يناقض حقيقته على أنه أكذوبة وخطأ. لهذا فإن موران يعتبر، بأن الخطأ الأساسي يقوم في التملك الوحيد الجانب للحقيقة ( كتاب الحقيقة، 1993 ص24 ). إذن بهذا المعنى، تصبح الحقيقة المطلقة كمنبع للخطأ أو للشرور، عندما يتم تملكها واعتقالها لا من قِبَل شخص بعينه فحسب، كما ذهب موران؛ بل في رأيي- عندما تعتقل من قبل جماعة من الجماعات، أو طائفة من الطوائف، أو سلطة من السلطات، أو دولة من الدول، أو ثقافة من الثقافات، أو حضارة من الحضارات. فالحقيقة المطلقة التي تكون رهن التملّك والاعتقال، فإنها تنزع منزع العصبية والاستشراس والعنف والإلغاء والانغلاق على نفسها. كما أنها تغذي الاحساس بالتفوق العرقي لدى رعاياها، وتسول لهم بأنهم فوق ارتكاب الخطأ، وأن كل من يحاول البحث في حقيقة هذه الصوابية المفترضة أو يعارضها، هو شيطان أشر وعدو مبين ولابد من محاربته أو تصفيته أو نفيه أو اعتقاله أو تدجينه أو إخراسه للأبد. لهذا كانت نتائج مَنْ احتكروا هذه الحقائق المطلقة التي لا تقبل النقاش ولا المساءلة والتي تنزل منزلة القداسة، والذين روجوا لها وقادوا شعوبهم باسمها أو دفعوهم نحوها، أن ارتكبوا الأخطاء الشنيعة والجرائم والإبادات الفظيعة التي عرفتها البشرية على مر العصور.

هكذا مثلاً، وباسم الحقيقة السياسية المطلقة لتفوق العرق الآري، قتل هتلر وحده 17 مليون نسمة، وباسم الحقيقة المطلقة للثورة البلشفية والشيوعية في روسيا، أباد لينين وستالين ما لا يقل عن 34 مليون نسمة. وكذلك وباسم الحقيقة المطلقة للشيوعية الحمراء في الصين، فإن ضحايا الزعيم الصيني ماو، قد بلغ عددهم ما بين 27 إلى 29 مليون إنسان. أمّا ضحايا الحقيقة المطلقة للرأسمالية الأمريكية والديمقراطية الإسرائيلية، فهي أكثر من ان تحصى لأنها تتكرر بشكل يومي ومن دون توقف. ولعل هذا كله، ينطبق أيضاً على من يدعون امتلاك الحقائق المطلقة، سواء المتعلقة منها بالحقيقة الإثنية أو الحزبية أو الطائفية أو العرقية أو العنصرية أو العصبية أو الهوياتية، أو غيرها من الحقائق. الحقيقة المطلقة إذاً، خطر ماحق ودمار حتمي.

(4)

لذا ما من وضع سيئ أو متهالك أو متهافت أو مزعزع أو مأساوي لأي مجتمع من الداخل؛ إلاّ وتسبقه سلسلة من الأخطاء التاريخية أو الآنية، المختلفة والمتنوعة والتي تصب جميعها كحقنة سامة كبيرة في أوردة المجتمع المريض نفسه. من هنا يصبح نوم المجتمعات مرضاً قاتلاً؛ كما تصبح الأخطاء سمّا زعافاً يتجرعه الشعب يومياً وبشكل متواصل. ومن هنا أيضاً يمكنني التوكيد، على أن الأخطاء المجتمعية ليست في كل الأحوال وليدة المصادفة أو القدرية كما يريد البعض تضليلنا وإيهامنا بذلك؛ بل هي في العمق وبما أن بعضها يتكرر من جيل إلى جيل أو من قرن إلى قرن فإنها تخضع في المحصلة، إلى ما يمكن تسميته: بالحدث الأكبر، أو بالانشطار الفيزيائي للخطأ. تماماً كما يحدث في الانشطار النووي الذي تسببه النيوترونات الحرارية، والذي أدى إلى صناعة القنبلة النووية.

إذن وانطلاقاً من قاعدة، أن المجتمع يسهم في بنائه الجميع من أجل الجميع وبوصفه موطن الجميع، فإن تعميم خطاب الخطأ لن يكون سوى السرطان الذي ينخر جسم المجتمع رويداً رويداً. وبما أن معرفة هذه الأخطاء لا تتم إلاّ بإدراك ماضي الخطأ نفسه، في موضعه وتحولاته الزمنية وإخضاعه لمشرط البحث والمساءلة النقدية فكرياً وثقافياً؛ فإن التغاضي عن هذا الوضع المشين والقاتل يعني أن هذا المجتمع حكم على نفسه بالتحول إلى جثّة من الأخطاء، لا قدرة لها إلاّ على فبركة كلّ ما هو كاذب وخادع ومزيف عن نفسه.

من هذه النقطة المقلقة جداً، يبرز دور الوعي النقدي بمعناه الحداثي الواسع، بوصفه لاعباً أساسياً وشريكاً جوهرياً وضرورياً في فهم الطبيعة الثقافية للمجتمعات، والاسهام في تطوير آلياتها البنائية وتحديث أساليبها، والسعي إلى تحريرها من أوهامها وخزعبلاتها، وتصحيح قصور كلّ ما يحيط بها من تورمات وأمراض، تتسبب جميعها في تعميم كارثية الخطأ. فالنقد هو معول ايقاظ ذهبيّ يهدّم إرادة الخطأ، ويُقلب قشرتها بهدوء وعلى أسس منهجية وعلمية أو تأملية، ويحد من انتشارها وتشرشها وتوغلها، ويكشف ميكانيزماتها التكوينية العميقة التي انبنت عليها. كما أنه يعمل على سحب الحقائق وإجلائها من تحت كلّ هذه الأكوام من الركامات الخاطئة. فالنقد بشقيه الفكري/ الفلسفي، والجمالي/ الفني، يلتزمان بمعيارية البحث عن الحقيقة المركبة للأعمال والنصوص والقضايا المختلفة والبناءات الثقافية، التي تواجه المجتمع في وعيه ولاوعيه، وذلك عبر التصويب المنظّم للأخطاء. وهو، أي النقد، بفعلتهِ هذه، يكون قد أسهم فعلاً في وضعنا في اللحظة التاريخية المناسبة من وجودنا. لأنه يبحث عن إجابات للأسئلة الكبرى المتصلة بحياتنا وبأوضاعنا وبمستقبلنا المشترك.

(5)

لهذا ومثلما سمح مجتمع ما لإرادة الخطأ أن تحتل خلاياه وتفرض سلطتها عليه بشكل مُزْمنٍ ومؤذٍ، فإنه في المقابل ولكي يقاوم تآكل كياناته وخوار قواه ونضوب ينابيعه المستقبلية، وكذا للإجابة عن أسئلة مصيره المشترك؛ عليه أن يسمح وبقدر أكبر أيضاً لإرادة النقد أن تأخذ مكانتها اللائقة تحت شمس الحقيقة الوطنية. ولعل هذا الانتعاش المأمول للخطاب النقدي، لن يكتب له الظهور والانتشار والتأثير المرجو منه، ولن يطل برأسه من تحت الرّمادِ كالعنقاء؛ إلاّ إذا منح الحرية التي يستحقها في المشاركة ببناء الإنسان والأوطان. فالنقد بطبيعته كائن حر، يرفض الأغلال وأشكال الهيمنة على عقله وكيانه، ولا يترعرع ويتطور إلاّ في مناخ من الحرية الديمقراطية المكفولة والمسؤولة دوماً وأبداً.

العقل النقدي إذاً هو النور الذي يتوسط كيان الفرد وروحه، الفرد المدرك لذاته والمتطور باتجاه جوهر حريته، منذ النشأة وحتى الممات؛ والعقل النقدي هو الذي يجعل الفرد يحتفظ بجوهر وجوده الذاتي، وهو الذي يرفع الفرد من مرحلة البهيمية الغريزية إلى مرحلة الآدمية الواعية، أو ينقله من الطور الطبيعي المادي إلى الطور الثقافي للفكر والروح معاً. ولكن مقولة: أن جميع الناس عقلاء وأنهم أحرار بالضرورة، هي صحيحة من حيث المبدأ والمنطلق. إلا أن الأمر لا يجري على هذا النحو في كل الأوقات؛ لأن امتلاك الناس للعقل، لا يعني أبداً بأنهم قد أصبحوا جميعاً عقلاء، وبأنهم قد أصبحوا بذلك أحراراً. فالجاهل والأمي والمدعي والمتثاقف والمرتزق وغير المثقف ومن هم على هذه الشاكلة مثلاً، يعلمون بأن لديهم عقلاً مزروعاً في رؤوسهم؛ غير أن عقولهم تلك تكون في وضع الكمون، تماماً كما هو وضع العقل الاستعدادي للطفل؛ أي كما لو أنها لم توجد بعد. لأن عقولهم في هذه الوضعية، ليست بالعقول المتطورة، أو المتميّزة، أو الجدلية، أو المعقدة، أو الناضجة، أو المبدعة، على الاطلاق. زِدْ على ذلك، بأنها ليست بالعقول التي تغوص في أعماق ذاتها، لتعي حركة ذاتها وحركة الروح في هذه الذات نفسها. لذا فهي عقول من شدة تسطيحها وخوائها، لا تعرف ماهيّة الوجود الذي تعيشه البتّة (إلا ما هو ظاهر منه فقط)؛ كما أنها مفصولة عن ذاتها وأبعد من أن تحيط بها. وكذا، وفي غياب الوعيين بماهيّة الذات والوجود معاً، يغيب أيضاً الوعي بإدراك جوهر الحريّة، سواء باعتبارها حقاً طبيعياً من الحقوق الاصلية التي تشكّل ذات الفرد وماهيته، أم باعتبارها ما يُعين وجوده، ويُظهر حضوره، ويحفظ وحدته وتفرده، ويجعله عليماً بحركة حياته وحياة مجتمعه في هذا العالم.

(6)

إن المفهوم الهيغلي لحريّة العقل والروح، كما ورد في كتابه محاضرات في تاريخ الفلسفة، يجعلنا نستدل على علة الجهل الكبير، التي لا تغلّف أفراداً بعينهم بل تغلّف شعوباً بأكملها، لم تصل بعد إلى فهم جوهر الحريّة وجعلها مبدأً حقوقياً في الصميم. فالإنسان الحُر، ليس هو الشخص سليم النية، وبهذه الصفة وحدها يصبح حُراً. كما أن البشر لا يمكن تقسيمهم إلى أحرارٍ وغير أحرار، مثلما كان يعتقد أفلاطون وأرسطو وشيشرون والفقهاء والرومان وبعض بلدان آسيا؛ بل أن الإنسان الحُر، هو من حيث هو إنسان، قد وُلِدَ حُراً، وإنه حرٌ، كما يؤكد هيغل.

ولعل هذا المفهوم الهيغلي الأصيل، يتقاطع مع المفهوم الإسلامي للحرية القائل: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. بمعنى أن حق الحرية، بالمفهوم الهيغلي والإسلامي، يأتي متزامناً مع ولادة الإنسان، أي إنسان، وليس لاحقاً عليه. ولكن بما أن هذا الفرد الجديد القادم للدنيا توّاً، قد استحق حريته الفطرية الأولى الممنوحة له إلهياً؛ فإن من الطبيعي أن يتربى هذا الفرد علمياً وثقافياً وسياسياً؛ وضمان حقوقه بحيث ينال حريّته كاملة بالمعنى الحقوقي الواسع للكلمة، من دون انتقاص أو مصادرة من أي نوع. وذلك حتّى لا يتعارض الحق المَدِيني للدولة مع الحق الإلهي، في تتميم علاقة المواطن بحريته في الوطن الواحد كما في الحياة ذاتها. لذا فإن الأمر المهم، في نظر هيغل، هو وعي الشعب بحريّته قبل أي شيء آخر.

إن الحرّية إذاً، تنبع من داخل الإنسان المدرك لذاته والمتعين في حريتهِ كموضوعٍ وكمعرفةٍ واقعيةٍ. فهو لا ينتظر من أحدٍ أن يهبه حرّيته؛ لأن حريته مكفولة من السماء أولاً، ومن حركة روحه العاقلة المدركة لحركة الأشياء، والكائنات، والأرض، والكون اللامتناهي في سديمه المحض ذاته، ثانياً. فمن خلال هذا الادراك الشمولي للعالم، في مساره العام والخاص، أو كما يتجلى في مكونات الوجود ونظام الكون، وذلك عن طريق حركة المعرفة الذاتية المحضة، تتجلى شمس الحقيقة الكبرى واضحة لديه. لأن الإنسان، بتوكيد هيغل، لا يكونُ حرّاً إلاّ إذا عرفَ نفسَهُ، وأن هذه المعرفة هي وحدها التي تحرّرُ الإنسان.

الحرّية بهذا المعنى، في حقيقتها وفي عمقها الجوهري، هي سابقة على تشكل أيّ سلطة كانت في المطلق، مثلها بهذا مثل وجود الهواء والماء والطعام والشمس.. الخ؛ بحيث تعد متزامنة ومتطابقة مع اكتشاف الإنسان لوجوده، كذاتٍ عاقلةٍ ومتفردةٍ في هذه الحياة أصلاً. لذا ومن دون هذا الفهم العميق لمعنى الحرية، ومن دون احترام الحق الإلهي لحرية الإنسان والثقة به كمواطن صالح، ومن دون وضع الضمانات التشريعية والحقوقية التي تكفل ممارستها نظرياً وعملياً وعلى اسس ديمقراطية؛ فإن إرادة النقد ستظل محاصرة ومجابهة بألف طريقة وطريقة؛ بينما ستظل أخطاء الحقائق المطلقة تقود المجتمع إلى الهاوية والخراب، تماماً كما حدث لتجارب بلدان كثيرة في العالم من قبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"