الحكومة الفلسطينية «العرجاء» والعاصفة الهوجاء

04:11 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى


استهلت الحكومة الفلسطينية الجديدة برئاسة الدكتور محمد اشتية عملها بعد تأديتها اليمين الدستورية أمام الرئيس محمود عباس بإعلان استعدادها لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية الكثيرة التي تعترضها. ولكن هذا الإعلان قوبل بنوع من الاستغراب في بعض الأوساط الفلسطينية التي ترى أن حجم المصاعب الإقليمية والدولية التي تعترض عمل الحكومة الجديدة أكبر من قدرتها على تخطيها خصوصاً، وأنها تشكلت في ظل انقسام فلسطيني واضح.
في ظل هكذا واقع يمكن وصف الحكومة الفلسطينية بأنها حكومة عرجاء، لا يمكن لها أن تواجه مثل عاصفة «التسوية الأمريكية» الهوجاء
 عرضت حكومة أشتية نفسها وكأنها حكومة الفصائل الفلسطينية التي عليها أن تتحمل مسؤولية الوضع الصعب القائم، لكنها خلت من حضور أو توافق ليس من الفصيلين الإسلاميين الأكبرين، حماس والجهاد الإسلامي فقط، وإنما من فصيلين أساسيين في منظمة التحرير، الجبهتين الشعبية والديمقراطية. بل إن فصيلين ممن انضما إلى الحكومة شهدا خلافات واسعة وصلت حد الانشقاق، كما حدث مع «حزب فدا»، والتناقض كما حدث مع «حزب الشعب».
واضح أن التحدي الأساسي لحكومة اشتية هو التسوية السياسية في ظل الحديث عن الصفقة الأمريكية وقرب الإعلان عنها، وهي تشكل حاليا أرضية تبادل الاتهامات في الحلبة الفلسطينية بعد أن صار كل فعل فلسطيني موضع خلاف يرتبط بها وينسب إليها. وهكذا فإن كل الإجراءات التي تمت وتتم في قطاع غزة تحت حكم حركة حماس، وخصوصاً تفاهمات التهدئة، ينظر إليها من جانب فتح وحكومة اشتية على أنها جزء من مخطط التسوية المتوقعة. كما أن تشكيل حكومة اشتية، من جانب فتح والرئيس عباس، ينظر إليه من جانب حماس وأنصارها على أنه تنفيذ للتسوية.
وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الاتهامات فإن الفلسطينيين عموما، بكل فصائلهم، يرون في هذه «التسوية» تنفيذا أمريكيا لمشروع صهيوني لتصفية القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد. وبالتالي ليست الاتهامات هي من تحدد إن كان هذا الطرف أو ذاك يخدم هذا المشروع أم لا بقدر ما يخدمه واقع الانقسام وانعدام المصالحة الذي يتكرس يوما بعد يوم.
على أي حال، وفي الوقت الذي يتبادل فيه الفلسطينيون الاتهامات بشأن خدمة صفقة القرن لم يجد وزير الخارجية الفلسطيني، الجديد القديم، رياض المالكي ضيرا في إعلان استعداد الرئيس عباس للاجتماع من دون شروط في موسكو برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. ومن المنطقي الافتراض أن هذا الإعلان يأتي في سياق الرد على محاولة الإدارة الأمريكية الانفراد بوضع حل منحاز للصراع العربي- «الإسرائيلي». ولكن هذا الإعلان يتنافى مع الموقف الفلسطيني التقليدي المعلن الذي كان يرفض الاجتماع مع قادة الاحتلال أو التفاوض معهم من دون تحديد مرجعية وأفق لهذه الاجتماعات والمفاوضات. ويظهر هذا الإعلان مقدار العجز الفلسطيني عن إبداء المرونة في التعاطي الداخلي مع الخلافات والأزمات مقارنة مع التعاطي الخارجي سواء مع الإدارة الأمريكية أو الكيان. وينطبق هذا أيضا على المرونة التي أبدتها وتبديها حماس في الاتصالات الجارية عبر مصر مع الاحتلال من أجل التوصل إلى اتفاقية تهدئة طويلة الأجل وفك الحصار المفروض على القطاع.
والواقع أنه ورغم وصول وفد فتحاوي إلى القاهرة لفتح ملف المصالحة يصعب الاعتقاد أن جولة جديدة من الاتصالات سوف تفضي إلى نتيجة مغايرة لما حدث حتى الآن. فالوقائع تشهد على أن سبل إدارة الأزمة الداخلية الفلسطينية قادت حتى الآن إلى تعميقها وربما أن وطأة المصاعب السياسية المقبلة، تمهيدا لعرض الصفقة، لن تيسر إيجاد حلول لها. وهذا ما يبدو الهدف الذي سبق لرئيس الحكومة «الإسرائيلية» أن أعلنه وهو تخليد الانقسام والدفع إلى خلق ما يشبه الدولة المقيدة في قطاع غزة وإدارة حكم ذاتي في الضفة الغربية. ومن المؤكد أن هذا ليس ما تسعى إليه لا السلطة في رام الله ولا حكومة الأمر الواقع في قطاع غزة،ولكن ما يغدو واقعا يصعب الفكاك منه جراء الانقسام الفلسطيني وتدهور الوضع العربي.
عموما تعتبر حكومة اشتية الحكومة الفلسطينية الثامنة عشرة منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993. ومن الجائز أن هذا التوصيف يشهد على مقدار ابتعاد الوضع الفلسطيني عن تسمية الواقع بمسمياته. فالحكومة ليست مجرد إدارة بقدر ما هي تعبير عن إرادة شعب واستقلالية وفق معايير دولية. وحكومة اشتية تأتي في وضع فسر فيه الاحتلال كل الاتفاقيات السياسية والاقتصادية الموقعة معه لمصلحته وبتشجيع أمريكي فاضح. وهكذا لم تعد المسألة فقط سد أفق التسوية وإبعادها عن حل الدولتين وإنما أيضا الإمساك بخناق الشعب الفلسطيني وسلطته في الضفة وغزة على وجه العموم.
الحصار المفروض منذ عقود على قطاع غزة معروف ولا يحتاج إلى تفسير وتوضيح وتكفي الإشارة إلى أنه انتقل مؤخرا من «الميكرو» إلى «الماكرو». فطوال سنين كانت سلطات الاحتلال تتحكم في عدد السعرات الحرارية التي يمكن إدخالها للقطاع بقصد منع حدوث أي تنمية وأيضا منع حدوث مجاعة. وأسهمت هذه السياسة في تحويل سكان القطاع إلى عاطلين عن العمل مهمشين عن الإنتاج متلقين للمعونات. ولكن ذلك لم يقلل من إرادة المقاومة لديهم فصار الكيان يحاول السيطرة على القطاع عبر «التسهيلات» التي تجعل لدى الفلسطينيين ما يخسرون إذا ما أرادت معاقبتهم.
وسياسة كهذه يجري تنفيذها في الضفة الغربية، ولكن بطريقة يتم فيها بشكل منهجي قضم صلاحيات السلطة الاقتصادية والسياسية والأمنية هناك. ومؤخرا، وبتشجيع أمريكي، سن الاحتلال قانون لحسم مبالغ مشابهة لما تدفعه السلطة لعائلات الشهداء والجرحى والأسرى من أموال المقاصة الضريبية التي يجبيها الاحتلال على البضائع الواردة لمناطق السلطة. وقد اضطرت السلطة للاستدانة من البنوك لتمويل دفع نصف رواتب موظفيها ما يهدد استمرار عمل السلطة.
وهذه أحد أهم التحديات التي تواجهها حكومة اشتية قريبا. فمسألة الصفقة مسألة سياسية تقررها الرئاسة ومنظمة التحرير فيما أن مسألة رواتب الموظفين وإدارة الاقتصاد شأن حكومي بحت. ولهذا السبب كان إعلان الدكتور اشتيه عن برنامج للتقشف الحكومي وآخر لزيادة الاعتماد الاقتصادي على الذات عبر تشجيع العمل الخاص لتوسيع دائرة الإنتاج. لكن سياسة كهذه تتطلب وقتا وجهدا ومالا لإنجازها وهو ما لا يبدو متوفرا بالمستوى المطلوب حاليا. فالأمور في الضفة الغربية تتسارع في ما يشبه السباق بين مخطط الاستقلالية الفلسطيني وبين مخطط الاحتلال لتجيير الإعلان عن الصفقة لصالحه. وقد نشرت وسائل إعلام «إسرائيلية» تقارير مضمونها أن الغاية من الصفقة ليس تحقيق أي شكل من أشكال التسوية، وإنما دفع الفلسطينيين لرفضها لتوفير الذريعة لنتنياهو، إما لإعلان ضم الكتل الاستيطانية وإما لفرض القانون «الإسرائيلي» عليها. وفي ظل الانقسام يصعب الحديث عن تحقيق إنجازات.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"