السهرات التراثية.. عودة إلى الزمن الجميل

بوابة للتعرف إلى الحياة الأصيلة
01:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
بيروت:رنه جوني

السهرات التراثية تزين أمسيات قرى جنوب لبنان، ونساؤها يجرشن القمح على الجاروشة الحجرية، الطربوش الأحمر والشروال زي الرجال. هذه ليست صورة من فيلم لبناني قديم، ولا مشهداً من مسرحية موسيقية ما، بل هي واقع عاشه عدد من أبناء القرى الجنوبية ليومين على التوالي، استعادوا معه عبق الماضي، وعادات بعدت عن البال، ترسم صورة لقرى وضيعات الجنوب في ثلاثينات القرن الماضي. هذه التقاليد وتلك الصورة أعاد شباب بلدة «كفرصير» الجنوبية في لبنان إليها رونق تلك الحياة، عندما بنوا قريتهم القديمة على طريقتهم، في إحدى السهرات التراثية.

كانت رغبة هؤلاء الشباب الوحيدة، كما أخبرونا، هي: «إحياء صورة الماضي بحدث كبير»، هذه الصورة التي تمت أرشفتها في كتب مثل «الجنوب تاريخ وتراث»، للباحث علي مزرعاني. أما شبابنا، فكانت البداية عندما جاؤوا بالتبن والأخشاب والحجارة الصخرية، ليبنوا منزلاً شبيهاً بمنزل الأجداد، وبعدها اكتملت الصورة ببقية مفرداتها، من الاستعدادات لهذه السهرة التراثية.. يقول أبو زهير بن البلدة: طعم الماضي يريح من تعقيدات الحاضر، جيل اليوم بأمسّ الحاجة إلى البساطة، هو الغارق في شبكات متطورة.. لا يعرف «كوعه من بوعه» حتى إنه لا يعرف قيمة الحياة، يظن أن التطور سعادة ورقي.

يضيف أبو زهير أن الجيل الجديد يأخذ من التطور القشور ويترك الجوهر، وهذا سبب وقوع نسبة كبيرة منهم في حالة اليأس، من هنا يشكل إحياء التراث بوابة ليتعرف فيها الشباب على طريقة الحياة الأصيلة التي تعلم البحث والتنقيب، والتفكير والاكتشاف وابتكار الأدوات الجديدة. تعلمهم صناعة السعادة والبساطة وتجديد لغة الحوار وتبادل الأفكار، ففي السابق كانت تكفي جلسة و«سهرية» يتناقل فيها المجتمعون خبريات ونقاشات وحوارات وغيرها.

بين «الأوف» و«الميجانا»

بين الأوف والميجانا والعتابا ورائحة خبز الصاج و«البقلة» (القمح المسلوق يؤكل مع السكر وجوز الهند) والعرانيس، وحركة الحاجة أم لطفي وحولها مجموعة من الفتيات يساعدنها، تحضر شراب رب البندورة، وتدق الزعتر، وتعد حلوى الزلابية للسهرة المسائية، صورة أوقفت الزمن، تناسى الحضور حاضرهم المؤلم، بأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.

استأنس الحضور بالماضي وحركته التي فيها «بركة»، تقول الحاجة أم لطفي: الحياة ليست تعباً فقط إنما تعب وكد. صحيح كنا نتعب جسدياً إنما البال كان مرتاحاً، كانت المرأة تعمل صباحاً في الأرض تزرعها، وظهراً في المنزل، وترعى الماشية، ورغم ذلك كان البال مرتاحاً، اليوم كل شيء متوفر لكن البال مشغول، يكفي أن الألفة سمة الحياة ذهبت اليوم مع التطور.

تشكل السهرات التراثية ركيزة أساسية من ركائز السياحة الجنوبية الحديثة؛ إذ تستقطب إليها الشباب وتنجذب الفتيات إلى التعرف إلى مائدة الأكل القروي، وعلى عادات الأعراس التي بدأت تتجدد في الآونة الأخيرة، من سهرة الحنة إلى سهرة الخيل والميجانا، حتى لو كانت على الطريقة الحديثة. كل هذه العادات التراثية تشكل كتاباً مهماً لدراسة تاريخ وحضارة وثقافة شعب الجنوب. فهناك عناصر ثلاثة تحدد هوية الشعب الحضارية، وفق ما يقول الباحث التراثي علي مزرعاني، الذي يرى أن السهرات التراثية شأنها شأن أي تقليد قديم تمتّن روابط الانتماء للأرض، وتعيد تشكيل وبناء واقع حديث بقواعد متينة.
ويشدد مزرعاني على أن التاريخ القديم يقرأ من العادات والتقاليد والثقافة؛ فهي عوامل تساعد على تكوين صورة عن أي بلد. أما مع السهرات التراثية، فالواقع يختلف لأنها تجدد الحياة، حيث تسهم في حفظ التراث، وتدل على أهميته في توطيد العلاقة بين الأرض والشعب. الشباب حضور السهرة، ومنهم من ساعد في الإعداد لها، كانت لهم آراؤهم حول أهمية هذه السهرات، حيث ترى سوسن (20 عاماً) أن الماضي يشكل صورة وحكاية يجب أن نتعرف عليها، لندرك معنى قيمة «أيام زمان». أما سالي التي شاركت في إحدى السهرات التراثية التي دعينا إليها، فاعتبرت أن العودة إلى التراث بداية حياة، تقول: تشعر وكأن روحاً من القوة والعطاء تتولد داخلك وتتجسد بالمحبة والإبداع. في حين يكشف رامي عن رأيه بالقول: حين تعرف كيف كان الأجداد يبحثون عن كل شيء ليصنعوا حياتهم، ورغم تعبهم يفرحون ويحيون سهرات زجل وعتابا، فهذا ينم عن حب الحياة، أما الآن فنحن نتعب حتى من قراءة كتاب.
عاشت «كفرصير» أجواء الماضي بجميع أبعاده، وعاش الزوار جو الضيعة بكل معانيه، وشاركوا في العمل والدبكة وإعداد المونة، فاستعاد الشباب «بقعة ضوء» تخبرهم بأن التراث بداية تغيير المستقبل، وركن أساسي للإبداع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"