الشارقة.. كتاب لا يُغلق

رؤى
01:16 صباحا
قراءة 5 دقائق
محمد عبدالله البريكي

لا تزال إمارة الشارقة تجسّد شعارها الذي رفعته عالياً وهو «افتح كتاباً.. تفتح أذهاناً» فمشروعها الذي آمنت به، ونثرت بذور طموحها في أرض تحفظ الماء وتنبت الكلأ، تحقق اليوم من خلال ديمومة العمل الذي تبرز فيه أهمية الكتاب ودوره الحيوي الفاعل في هذه العملية، وحين تقترب الأيام وتتسارع لتصل بالشغف إلى معرض الشارقة الدولي للكتاب، فإن هذا التسارع يحضر أخيراً حضور المنجز الذي يفتخر به صاحبه، فهذا المعرض ليس رفوفاً توضع عليها العناوين الكبيرة الجاذبة فقط، بل هو تلك الروح المتآلفة مع الكتاب قبل المعرض، هو تلك العلاقة الوطيدة التي ترسخت في الروح، وضربت جذورها في الفكر، لتشكل علاقة رحم فكري، علاقة عاطفة إبداعية، علاقة تواصل معرفي، علاقة جيلٍ زرع وجيلٍ يجني الثمار، علاقة لقاءٍ إنسانيٍّ وإبداعيٍّ بين أروقة المعرض، وفي ظلال شجرة الشارقة الوارفة بالمحبة والمعرفة.
أنا أتتبع عن بُعد مشاركات إمارة الشارقة في معارض الكتب الدولية، ومن خلال ما تنشره وسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي، أجد ذلك الحضور الفاعل للكتاب وأهله، فمشاركات هيئة الشارقة للكتاب، ودائرة الثقافة بالشارقة، وباقي المؤسسات التي تُعنى بالنشر والكتاب، ومن خلال مشاركات العديد من الكتّاب في مجالات إبداعية مختلفة «قصة ورواية وشعر... وغيرها» أجد تلك العزيمة التي لا تعرف التراجع أو الملل، تلك الهمم التي تشق طريقها نحو القمم، من أجل إبراز دور إمارة الشارقة ومشروعها الثقافي الكبير الذي يرعاه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والذي يشرّف تلك المعارض بالمشاركة والمتابعة والحضور الشخصي.
ها هي الشارقة تشارك بقوة في معرض «ليبر» للكتاب بمدريد، هذه المشاركة التي تعيد لنا التاريخ بتجلياته العظيمة التي لن تمحيها الأيام، والتي تذكرنا بابن زيدون وولادة بنت المستكفي ولسان الدين بن الخطيب وابن زمرك وأبو البقاء الرندي والمعتمد بن عبّاد وغيرهم، تاريخ من المعرفة والفخر، وكنوز ثقافية حفظت لنا ما كان من حضارة لا تزال آثارها شاهدة على عظمة المعرفة وقيمة الكتاب الذي حفظ للأجيال حقبة مهمة من التاريخ، ومن خلال هذه المشاركة التي سبقت معرض الشارقة الدولي للكتاب، تجعلنا إمارة الشارقة أكثر قرباً من الكتاب، وتدعونا إلى قراءة متأنية، وإبحار جادّ من أجل الوصول إلى دُرر غنية تعيد الإنسان إلى البناء، ومن هنا تحقق إمارة الشارقة ما تصبو إليه من هذا الجهد، فهي من باب التواصل الفعلي، وتوسيع جغرافيا مشاركاتها، تنقل الصورة الحقيقية لهذا المشروع الذي يهدف إلى التواصل الإنساني والإبداعي، وتطرح الكتاب والثقافة كخيار استراتيجي ليقف أمام كل ما من شأنه هدم مقدرات الأمم، ومنجزات الإنسان، يقف أمام التخلف الفكري والجهل الذي بسببه تكبر مساحة الظلام والعبث والتخبط.

إيمان

نعم.. إنها القراءة التي آمنت بها الشارقة من خلال ما تضمه بطون الكتب من نفائس ودُرر، ومن أضواء تكشف العتمة، وتنير مدن التأمل والفكر، القراءة التي قلت عنها: القراءة سفر دائم إلى عوالم من الدهشة عبر فضاءات الحروف وظلال المعاني، القراءة زاد الإنسان اليومي الذي يمده بالطاقة التي تساعده على الحركة والعمل والإنتاج، فهي وقود لا يفنى، ونهر لا يتوقف عن الجريان، وقد وعت الأفكار النيرة في هذا الوطن أهميتها، ما لا يدع مجالاً للشك في أنها هي الضوء الذي يخرج الروح من أنفاق الجهل وظلمات الأميّة.
إن حرارة انتظار المحبين لهذا العرس الثقافي الكبير التي تسبق يوم انطلاقة معرض الشارقة للكتاب تبدأ في الارتفاع منذ لحظة انطلاقة ضوء المعرفة، فلقاء الإنسان بالإنسان حول ضجيج الكتب وصخب عناوينها، يجدد تلك العلاقات التي تكاد تكون متباعدة بسبب ظروف حياتية وعملية وغيرها، هذا الكتاب الذي نادى على الناس بلسان فصيح: أقبلوا على الكتاب، هو في الحقيقة أيضاً ينادي عليهم بأن يلتفوا حول دفئه، ويلتقوا على موائد فكره، وينطلقوا من مدينته المضيئة وهم يحملون قبساً من المعرفة، يضيئون بها دروب الحلم، يحملون تلك النفائس التي تستند إلى السطور كما يستند أمير إلى أريكة فاخرة وهو يهيم عشقاً بلحظات الجمال.
وإذا اقتربنا إلى الفعاليات الثقافية التي تستقطب أعداداً كبيرةً من المهتمين وخصوصاً الفعاليات المتعلقة بالشعر، نجد أن المعرض حرص منذ سنوات على إقامة مقهى الشعر، هذا المقهى الذي يقام فيه مالا يقل عن ست عشرة أمسية شعرية تجمع اثنين وثلاثين شاعراً، وما يميز هذه الأمسيات هو الشعر الذي آمنت به الشارقة إيماناً عميقاً، ووعت دوره التاريخي منذ سنين طويلة، وبالعودة إليه كإرث حضاري وهوية عربية استطاع أن يعيد الناس إليه، ليلتقوا حول تلك الكلمات التي ترتبط في هويتها بتراثها العريق، وتتجدد في لغتها ومضامينها وصورها، وهو ما يؤكد مقولة العرب: لن يترك العرب الشعر حتى تترك الإبل الحنين.
أعود لأقول: إن هذا المعرض الذي حفر على أصابعي ذكريات غالية عبر سنوات محفوفة بعطر اللقاءات وورود الأنشطة الثقافية، هو الذي يمنحني الألفة، ويسرقني من ضجيج الحياة، لأجد بين أروقته عبق الحرف ونسيم الكلمة، ووهج الفكر، ودفء اللقاءات الإنسانية الحميمية، هذه الأجواء المفعمة برائحة الكتب هي أكثر ما يجعلني أشعر بقيمة الحياة، فاللقاء بأصدقاء الحرف بين أروقته، الذين أجدهم في لحظات الشرود يطالعون رفوف الكتب، ويمضون بين ممراته في اطمئنان وثقة، تجعل للحياة معنى، وتفتح بواباتٍ كثيرةٍ للفرح، وقد يتصادف أن ألتقي بالعديد من الأصدقاء، خصوصاً هؤلاء الذين لم أرهم منذ سنواتٍ طويلة، وهذا دليل على أن معرض الشارقة الدولي للكتاب يجمعنا على الكتب، فتحلو الأمسيات الجميلة، والجلسات التي نناقش فيها بعفوية قضايا الأدب، ونستمتع في الوقت نفسه بالقصائد التي يحتفظ بها كل منا في صدره، لكي يكون اللقاء جديراً بالشعر وبالكلمة وتطلعات الحياة، وإنَّ ذاتي لتشرق بمجرد رؤية الأصدقاء والأدباء والشعراء والإعلاميين، إذ يتنافس الجميع على الكتاب، وإحياء عرس الكلمة، في ظروفٍ قلّما نجدها في مكانٍ آخر، فمعرض الشارقة الدولي للكتاب ليس كأي معرض، خصوصاً أنه فضاء للحياة الأدبية التي رسخت لها الشارقة على مدار تاريخها، حتى إنَّ دور النشر تتزين بأبهى الكتب لكي تشارك وسط حفاوة كبيرة، فالجميع يدرك قيمة هذا الحدث الملهم الخاص الذي يعيد اكتشاف المبدعين ويكرمهم، ويخلق أجواء مختلفة، وما من شك، فالنجاح الذي يحصده المعرض كل عام، هو وسام على صدر كل أديب، لأنه الاتجاه الذي سعى فيه أصحاب المواهب الكبيرة والأدباء الشبان، هو قصة المجد التي نعيش تفاصيلها عاماً بعد عام، فالمعرض يضيف إلى أصحاب المواهب، ويلهمهم الإبداع برعاية الشارقة التي تحتفي دائماً بكل ألوان الإبداع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"