الشعبوية تخطف بريطانيا

02:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
بهاء محمود *

انتهت الانتخابات البرلمانية البريطانية بانتصار ساحق للمحافظين، هو الأهم والأكبر منذ عام 1987، لمصلحة زعيم شعبوي نال المقاعد الأكبر منذ تاتشر 1979. بوريس جونسون تحول الآن إلى زعيم بأغلبية مطلقة تكفيه لكل شيء! وليس بريكست فقط.
ارتفع تأييد المحافظين في ميدلاندز، والشمال الشرقي، ويوركشاير - وهي مناطق صوتت في 2016 لمصلحة «بريكست»، وفي المقابل تراجع تصويت الحزب بنقطة في لندن والجنوب الشرقي.
في أسكتلندا، انخفض تصويت الحزب بما يصل إلى أربع نقاط، وفي المقابل شهد حزب العمال انخفاضاً قدره 13 نقطة في الشمال الشرقي ويوركشاير، وكذلك ما بين 6 و7 نقاط في لندن وجنوب إنجلترا. مثّل ذلك خسارة كبيرة للعمال في معاقل الطبقة العاملة التقليدية. كما أن مناطق مثل آشفيلد، وبيشوب أوكلاند، ووركينجتون - التي لم تنتخب من قبل عضواً محافظاً في أي انتخابات عامة، قد صوتت الآن لمصلحة المحافظين.
نجاح المحافظين في إنجلترا وويلز، قابله تقدم كبير للوطني الأسكتلندي الذي أضاف إلى مقاعده 12 مقعداً جديداً، وبهذا يكون الوطني الأسكتلندي نال 47 مقعداً من أصل 59 مقعداً مخصصاً لأسكتلندا. فيما خسر حزبا أيرلندا الشمالية المتنازعان «الشين فين» و«الوحدوي الديمقراطي» ثلاثة مقاعد فقط، من أصل 18 مقعداً لأيرلندا الشمالية.

تغير القيادات المعارضة

ثلاثة أحزاب منيت إما بالفشل أو التراجع، كل حسب نتائجه، الحزب الأول العمال الذي نال هزيمة ثقيلة نتيجة سياسات غير متوازنة وخطاب قديم. جيرمي كوربين بالطبع سوف يرحل قريباً، ليس فقط بعد إعلانه عدم قيادة الحزب في الانتخابات المقبلة. بل لأنه ليس لديه ما يقدمه، فالحزب خسر تحت قيادته كل شيء، وكل المعارك خاب فيها. ويلزم الآن تغيير للقيادة ومراجعة «مانفسيتو» الحزب والتفكير في المستقبل ما بعد خمس سنوات.
الحزب الثاني الليبرالي الديمقراطي مقارنة بانتخابات 2017 لم يخسر كثيراً، بل حافظ على مقاعده، لكنه خسر عملياً مقاعد حصل عليها في نهاية البرلمان المنقضي، والتي تخطت 19 مقعداً، وهو ما يعني أن الحزب بنى برنامجه على قراءة خاطئة للداخل البريطاني، مستغلاً نجاحاً لا يعول عليه في انتخابات البرلمان الأوروبي، واستطلاعات رأي لا تصدق كثيراً، ومن ثم وبعد خسارة زعيمة الحزب «جون سوينسون» مقعدها في إحدى دوائر أسكتلندا، لا تبدو مهيأة لقيادة الحزب. الحزب الثالث «بريكست»، وعلى الرغم من أن زعيمه الشعبوي «نايجل فراج» أعلن أن حزبه لن ينافس على مقاعد المحافظين، دعماً للخروج من الاتحاد الأوروبي، وعدم تفتيت الناخبين. هذا المنطق مقبول لو أن الحزب حصد مقاعد في دوائر العمال، لكن الحزب لم يحصد أي مقعد. التفسير أن الناخبين ليس لديهم أي ثقة في مسألتين، الأولى هي قيادة نايجل فراج، والثانية أن حزب «بريكست» لا مبرر لوجوده في ظل وجود حزب المحافظين المتبني فعلياً للخروج من الاتحاد الأوروبي.

شبح الانفصال يعود

الواضح أن الحزب القومي الأسكتلندي تم دعمه جيداً في سعيه للانفصال، فالحزب المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي، والذي لطالما نادى بربط البقاء في بريطانيا بالبقاء في الاتحاد الأوروبي زادت قوته. ولا سيما أن نتائج الانتخابات في أسكتلندا تعني أنها لم تكن فقط على «بريكست»، بل الانفصال عن بريطانيا، من هنا سوف تسعى زعيمة الحزب القومي الأسكتلندي للدعوة إلى استفتاء ثانٍ لاستقلال أسكتلندا عن بريطانيا، على الرغم من رفض جونسون ذلك، إلا أنه من المحتمل حدوثه.
على الجانب الآخر، وعلى الرغم من أن اتفاق «بريكست» تعامل بإيجابية مع أيرلندا الشمالية، لكنه من الوارد جداً حدوث اضطرابات أمنية وأعمال عنف بين البروتستانت والكاثوليك. فالاتفاق ليس كافياً لفرض السلام في الجزيرة الأيرلندية، كما أنه يحتاج للتطبيق حتى يتضح ماذا بعد؟ فيما تظل طموحات حزب «الشين فين» المؤيد للاستقلال عن بريطانيا باقية، فالمقاطعات التي يترأسها الحزب والتي تحلم بالعودة للوطن الأم في جمهورية أيرلندا. قد لا يرضيها الاتفاق وتسعى لتواترت جديدة مع بريطانيا ومع البروتستانت المؤيدين للبقاء في المملكة.

هزيمة جديدة لليسار

على الرغم من اختلاف سياق الهزائم التي تلقاها اليسار في أوروبا عن بريطانيا، ولا سيما أن الأخيرة كانت معضلتها «بريكست». لكن الثابت في قراءة المشهد البريطاني هو تخوف المواطنين - أو بالأحرى شريحة منهم - من برنامج كوربين الاشتراكي الذي طالب بالتأميم لكثير من المنشآت الحيوية، المستشفيات والبريد وهيئة السكك الحديدية، على الرغم من أنه قانونياً يجوز للحكومة البريطانية فعل ذلك. لكن الأفكار التقليدية القديمة لليسار لا تلقى القبول الكافي في دولة تزعمت مع ألمانيا تحرير التجارة في أوروبا. ومن هنا يتضح أن كوربين لم يتشابك جيداً مع الواقع. وهو نفس الحال لدى أحزاب يسارية أوروبية نالت هزائم مثل سيريزا في اليونان والاشتراكيين في ألمانيا وغيرهم.

خطوة نحو «بريكست»

بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات نحو 67% بصفة عامة، لكن في المناطق العمالية شهدت تراجعاً، وهذا التراجع له تفسيران، الأول هو أن الناخبين المؤيدين لحزب العمال رفضوا برنامجه خاصة موقفه من عقد استفتاء جديد على «بريكست»، والتفسير الثاني هو عدم رغبتهم في تصويت عقابي لمصلحة المحافظين في تلك المناطق. المحصلة كانت قدرة المحافظين في السيطرة على البرلمان.
الآن يستطيع جونسون في البرلمان تمرير اتفاق «بريكست»، وبعد الحصول على الموافقة يمكن لبريطانيا الخروج في نهاية ديسمبر، وعدم الحاجة إلى الانتظار لنهاية المدة في ال 31 من يناير 2020.
الخطوة التالية هي البدء في مفاوضات التجارة خلال عام 2020 بحد أقصى نهاية الفترة الانتقالية التي من الممكن أن تجدد لعامين.

فوز آخر للشعبوية

جونسون هو أحد أهم زعماء الشعبوية في أوروبا، ذلك الزعيم المعجب بترامب وحليفه. فوزه مثل جرس إنذار لأوروبا المفككة فعلياً والمنقسمة، صحيح أن التجارب الشعبوية في إيطاليا والنمسا وغيرهما لم تنجح واقعياً في مواجهة الاتحاد الأوروبي، لكن فوز جونسون وسعيه نحو قيادة بريطانيا نحو «بريكست» محفوف بالمخاطر، وهو رسائل للشعبويين لمراجعة مواقفهم في بلادهم في فرنسا وفي إيطاليا والمجر وغيرها. مع العلم أن بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية ليس لها دور عالمي خارج عباءة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدت في عهد ترامب تعمل على إضعاف حليفتها الأوروبية. ومن هنا يمكن القول: إن فوز جونسون ضربة جديدة لأوروبا، وربما أيضاً لبريطانيا.

* كاتب وباحث (مصر)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"