الطبـري.. أوثـق مـؤرخ وأعـلم مـفسّر

قامات إسلامية
01:27 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة‮: ‬«الخليج‮»

كان أول التجديد في‮ ‬تفسير كتاب الله الكريم مع بداية القرن الثاني‮ ‬الهجري، ‮ ‬وكان أول من جدد من المفسرين في‮ ‬هذا القرن هو ابن جرير الطبري، ‮ ‬فحاز بذلك لقبين استحقهما، ‬فقد كان بحق «شيخ المفسرين» لجلالة قدره في‮ ‬علم التفسير، ‬وهو كذلك «إمام المفسرين» لسبقه في‮ ‬تقديم منهجه الجديد في‮ ‬تفسير كتاب الله‮.‬
وكما كان لهذا التفسير أولية زمانية، كان له كذلك أولية موضوعية،‮ ‬فهو لم‮ ‬يقتصر على لون واحد من التفسير،‮ ‬بل اشتمل على ألوان منه،‮ ‬رفعت من شأنه، ‮ ‬وجعلت له تلك المنزلة عند العلماء؛ فالطبري‮ رغم اعتماده على التفسير بالمأثور أساسا‮ً، جمع إلى جانب الرواية جانب الدراية، ‬واهتم بالقراءات القرآنية أي‮ ‬اهتمام، ‬وكان له اعتناء بعرض وجوه اللغة، ‬فضلا عن آرائه الفقهية واجتهاداته التي‮ ‬أودعها كتابه الشهير‮.‬
هو محمد بن جرير بن‮ ‬يزيد بن كثير بن‮ ‬غالب، الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري، (‮‬224 ه‮-‬310 ه، ‬839-923م‮)‬. ‮‬ولد في‮ ‬طبرستان في‮ ‬مدينة آمل، ‮ ‬سنة‮ ‬224 هجرية، ‬وتربى في‮ ‬أحضان والده الذي‮ ‬غمره برعايته،‮ ‬وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في‮ ‬العلم، فتولى العناية به، ووجهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم،‮ ‬فحرص على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ‮‬ودفعه إلى تحصيله، ‬فما كاد الصبي‮ ‬الصغير‮ ‬يبلغ‮ ‬السن التي‮ ‬تؤهله للتعليم، ‬حتى قدمه والده إلى علماء آمل، ‬وسرعان ما تفتح عقله، ‬وبدت عليه مخايل النبوغ‮ ‬والاجتهاد، ‬حتى قال عن نفسه‮: «‬حفظت القرآن ولي‮ ‬سبع سنين، ‬وصليت بالناس وأنا ابن ثماني‮ ‬سنين، ‬وكتبت الحديث وأنا في‮ ‬التاسعة».
وأكثر الطبري‮ ‬من الترحال في‮ ‬طلب العلم،‮ ‬ولقي‮ ‬نبلاء الرجال،‮ ‬وقرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد، ‮ ‬ثم ارتحل منها إلى المدينة المنورة،‮ ‬ثم إلى مصر، والري، ‬وخراسان، ‬واستقر في‮ ‬أواخر أمره ببغداد‮.‬

‮مؤلفات

جمع الطبري‮ ‬بين علوم التفسير، والفقه، والتأريخ، وعرف بميله لعدم التقليد، ‬وإلى جانب إمامته في‮ ‬علم التفسير، فقد كان حجة في‮ ‬التأريخ، واشتهر بكتابيه‮ «‬تفسير الطبري‮»‬، ‬و«تاريخ الطبري‮»‬، ‮‬وإضافة إليهما ألف الطبري‮ ‬في‮ ‬العديد من المصنفات والكتب، منها مثلاً‮: «‬التبصير في‮ ‬معالم الدين‮»‬،‮ «‬كتاب آداب النفس الجيدة والأخلاق النفيسة‮»‬، ‬والآداب في‮ ‬القضاة والنفوس والمناسك والآثار،‮ وخصص كتاباً لكل أدب منها. ‮‬وقال عنه الإمام النووي‮: «‬أجمعت الأمة على أنه لم‮ ‬يصنف مثل الطبري‮»‬، ‮ ‬فيما قال ابن الأثير‮: «‬أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ،‮ ‬وفي‮ ‬تفسيره ما‮ ‬يدل على علم‮ ‬غزير وتحقيق وكان مجتهداً في‮ ‬أحكام الدين لا‮ ‬يقلد أحداً، ‬بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله، وآرائه‮».‬
استطاع الإمام الطبري‮ ‬أن‮ ‬يوظف جملة من علومه في‮ ‬الفقه، واللغة، والدين، والعقائد،‮ ليخرج بتفسيره «جامع البيان في‮ ‬تفسير القرآن»، ‬أو «جامع البيان عن تأويل آي‮ ‬القرآن»، أو «جامع البيان في‮ ‬تأويل القرآن»، المعروف ب‮ «‬تفسير الطبري‮» ‬الذي‮ ‬صار مرجعاً إلى اليوم‮.‬
أملى الطبري كتابه «جامع البيان عن تأويل آي‮ ‬القرآن» على تلاميذه من سنة ‮ ‬283 إلى سنة ‮ ‬290، ثم قرئ عليه سنة ‮ ‬300. وقدم الطبري‮ ‬لتفسيره بمقدمة علمية حشد فيها جملة من مسائل علوم القرآن، ‮‬منها‮: ‬اللغة التي‮ ‬نزل بها والأحرف السبعة، ‮ ‬والمعرب، ‬وطرق التفسير، ‬وعنون لها بقوله‮: (‬القول في‮ ‬الوجوه التي‮ ‬من قبلها‮ ‬يوصل إلى معرفة تأويل القرآن‮)‬، ‬وتأويل القرآن بالرأي، ‬وذكر من ترضى روايتهم ومن لا ترضى في‮ ‬التفسير‮. ‬ثم ذكر القول في‮ ‬تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه، ‬ثم القول في‮ ‬تأويل أسماء فاتحة الكتاب، ‬ثم القول في‮ ‬الاستعاذة، ‬ثم القول في‮ ‬البسملة‮، ‬ثم ابتدأ التفسير بسورة الفاتحة، ‮ ‬حتى ختم تفسيره بسورة الناس‮.‬

كتاب الجامع

وكتابه الجامع هو أشهر الكتب الإسلامية المختصة بعلم تفسير القرآن الكريم عند أهل السنة والجماعة، ‮ ‬ويعده البعض المرجع الأول للتفسير بالمأثور، ‮‬فقد استقر منهجه في‮ ‬التفسير على أن‮ ‬يذكر الآية من القرآن، ‬ثم‮ ‬يسرد أقوال الصحابة والتابعين في‮ ‬تفسيرها بأسانيدها، ‮‬ثم‮ ‬يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة في‮ ‬الثقة والقوة في‮ ‬الآية كلها، أو في‮ ‬بعض أجزائها، بناء على خلاف في‮ ‬القراءة أو اختلاف في‮ ‬التأويل، ‮ثم‮ ‬يعقب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات واختيار أولاها بالتقدمة، ‮وأحقها بالإيثار، ‮ ‬ثم‮ ‬ينتقل إلى آية أخرى فينهج النهج نفسه‮: ‬عارضاً، ثم ناقداً، ثم مرجحا‮ً.‬
ويهتم بالقراءات المختلفة في‮ ‬كل آية، ويرجح إحداها،‮ ‬ويسرد الأحاديث النبوية بأسانيدها،‮ ‬والأحكام الفقهية، «‬وهو إذ‮ ‬ينقد أو‮ ‬يرجح‮ ‬يرد النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في‮ ‬القوة والضعف، ‮ ‬أو إلى مقاييس علمية وفنية‮: ‬من الاحتكام إلى اللغة التي‮ ‬نزل بها الكتاب،‮ ‬نصوصها وأقوال شعرائها، ‬ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها، ‮‬ومن رجوع إلى ما تقرر بين العلماء من أصول العقائد، ‮‬أو أصول الأحكام أو‮ ‬غيرهما من ضروب المعارف التي‮ ‬أحاط بها ابن جرير،‮ ‬وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من‮ ‬غيره من كبار علماء عصره‮».‬
ولا شك في‮ ‬أنه لم يقدر على اتباع هذا المنهج المتكامل إلا لأنه كما قال عنه الخطيب البغدادي‮: ‬«كان حافظاً لكتاب الله، ‬عارفاً بالقراءات، ‮ ‬بصيراً بالمعاني،‮ ‬فقيها في‮ ‬أحكام القرآن، ‬عالماً بالسنن وطرقها،‮ ‬وصحيحها وسقيمها، ‬وناسخها ومنسوخها، ‮‬عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، ‮ومن بعدهم من الخالفين في‮ ‬الأحكام، ‮ومسائل الحلال والحرام، ‮عارفاً بأيام الناس وأخبارهم».
ويعتبر الإمام الطبري‮ ‬من أكثر علماء الإسلام تأليفاً وتصنيفاً، وقال عنه أحمد بن خلكان صاحب وفيات الأعيان‮: «‬العلم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقاً حافظاً رأساً في‮ ‬التفسير إماماً في‮ ‬الفقه والإجماع والاختلاف،‮ ‬علامة في‮ ‬التاريخ وأيام الناس عارفاً بالقراءات وباللغة وغير ذلك‮».‬
و‬يقول‮ ‬ياقوت الحموي‮: ‬«وجدنا في‮ ‬ميراثه من كتبه أكثر من ثمانين جزءاً بخطه الدقيق».

الورع والزهد

كان الطبري‮ ‬على جانب كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام، ‮‬والبعد عن مواطن الشبه، ‮ ‬واجتناب محارم الله تعالى، ‮والخوف منه، ‮ ‬والاقتصار في‮ ‬المعيشة على ما‮ ‬يرده من ريع أرضه وبستانه الذي‮ ‬خلفه له والده، ‬وعرض عليه القضاء فأعرض عنه، ‮‬وعاش راهباً في‮ ‬محراب العلم والعمل حتى جاءته الوفاة، وتوفي‮ ‬وقت المغرب عشية‮ ‬يوم الأحد ‮ ‬26 من شهر شوال سنة ‮ ‬310 هجرية. ‮ ‬وقال ابن كثير‮: «‬ناهز الثمانين بخمس سنين، ‬وفي‮ ‬شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ‬ودفن في‮ ‬داره‮»‬، ‮ ‬وقال الخطيب البغدادي‮ ‬وابن عساكر‮: «‬اجتمع في‮ ‬جنازته من لا‮ ‬يحصيهم عدداً إلا الله، ‬وصلي‮ ‬على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، ‮‬ودفن في‮ ‬أضحى النهار من‮ ‬يوم الاثنين، بعد ذلك اليوم في‮ ‬داره الكائنة برحبة‮ ‬يعقوب ببغداد، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب‮».‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"