العراق.. صراع مفتوح على المجهول

03:01 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد سيد أحمد*

رغم مرور أسابيع على استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، استجابة للضغوط الشديدة التي مارسها الحراك في الشارع العراقي منذ بداية أكتوبر 2019 وترتب عليها سقوط أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى، ما زال التوافق السياسي بين الحراك والأحزاب والطبقة السياسية غائباً ومفقوداً، في ظل اصطدام التغيير السياسي الذي يطالب به المحتجون بعقبات عديدة، عكسها الفشل عدة مرات في اختيار بديل لعبد المهدي.
وفقاً للدستور العراقي يقوم رئيس الجمهورية، برهم صالح، بتكليف الكتلة الأكبر في البرلمان بتقديم مرشح لتشكيل الحكومة، لكن الكتل السياسية تنازعت حول مفهوم الكتلة الأكبر، حيث رأى تكتل «سائرون» بزعامة مقتدى الصدر الذي فاز بالمركز الأول (53 مقعداً)، أن التفسير يرتبط بالكتلة الأكبر الفائزة في الانتخابات، وبالتالي من حقه تشكيل الحكومة، بينما اعتبر «تحالف البناء» الذي يضم ائتلاف الفتح بزعامة هادي العامري (47 مقعداً)، و«ائتلاف دولة القانون» بزعامة نوري المالكي (26 مقعداً)، أن التفسير يتعلق بالكتلة الأكبر داخل البرلمان ومن ثم يحق له تسمية رئيس الوزراء، لكن الأمور زادت تعقيداً بعد أن رفض الرئيس برهم صالح تكليف ثلاثة مرشحين لرئاسة الوزراء من «تحالف البناء» بعد رفضهم من جانب المحتجين في ساحات الاعتصام في المحافظات العراقية المختلفة، خاصة في بغداد ومحافظات الجنوب، وهم محمد شياع السوداني النائب في البرلمان العراقي، وقصي السهيل وزير التعليم والبحث العلمي وأسعد العيداني محافظ البصرة السابق. وأشار صالح إلى أنه يفضل الاستقالة على تكليف رئيس للوزراء يرفضه الحراك في الشارع، في المقابل يطالب الحراك بتعيين رئيس وزراء مستقل من خارج الطبقة السياسية والأحزاب التي تحكم البلاد منذ عام 2003.

صراع التغيير والاستمرارية

هذا المشهد يعكس حالة الصراع المحتدمة على تشكيل المشهد السياسي العراقي ما بين تيار التغيير الذي يقوده الحراك وما بين تيار الاستمرارية في المعادلة السياسية الذي تدافع عنه الطبقة السياسية، خاصة الأحزاب والكتل السياسية في البرلمان. فالحراك العراقي اندلع في بداية الأمر لاعتبارات اقتصادية ترتبط بتردي الأوضاع المعيشية وتدهور ونقص الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه نظيفة، وكذلك استشراء الفساد في البلاد، خاصة في جهاز الدولة الإداري وفساد الطبقة السياسية التي استحوذت على الموارد، ما جعل العراق ضمن العشر دول الأكثر فساداً، ليتطور بعد ذلك لمطالب سياسية تتعلق برفض المعادلة السياسية الحالية برمتها ورفض الطبقة السياسية التي تهمين على المشهد السياسي منذ عام 2003 باعتبارها المسؤول الأساسي عما آلت إليه أحوال البلاد، ومن ثم يطالب الحراك بالتغيير الشامل سواء في المعادلة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية وتشكيل حكومة جديدة من خارج النخبة السياسية الحالية من التكنوقراط والمستقلين، وقد نجحت بالفعل ضغوط الشارع العراقي في استقالة عادل عبدالمهدي، ثم إقرار البرلمان لقانون جديد للانتخابات يقوم على أساس الدوائر المتعددة وليس الدائرة الواحدة، وكذلك على المقاعد الفردية وليس القوائم المغلقة، ما يعطي الفرصة الأكبر للمستقلين، ويقلل من هيمنة وسيطرة الأحزاب والكتل السياسية بسبب قانون الانتخابات السابق، كذلك إنشاء مفوضية مستقلة للانتخابات بعيداً عن المحاصصة الطائفية، ولذلك يطالب الحراك بمرشح مستقل لرئاسة الوزراء من خارج النخبة الحالية ويرفض ترشيحات الكتل السياسية، والتي بدورها تصارع من أجل الاستمرارية والحفاظ على الوضع القائم والمكتسبات التي حققتها خلال السنوات الماضية وترفض التفريط فيها، ومن ثم تحاول الأحزاب السياسية التظاهر بالتجاوب مع مطالب المحتجين، وفي ذات الوقت عدم إحداث تغيير جذري في المعادلة السياسية وأن تقود هي عملية التغيير بما يضمن مصالحها ووضعها في المشهد السياسي، ولذلك تتشبث بالدستور وآليات التغيير السياسي التي ترتكز على أن يقوم رئيس الجمهورية بتكليف الكتلة السياسية الأكبر في البرلمان بتسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة.

الشرعية الثورية أم القانونية؟

وهنا يكمن جوهر المشكلة والمعضلة التي تواجه العراق، أي الصراع بين الشرعية الثورية التي تعكس إرادة ومطالب الشارع العراقي وبين الشرعية القانونية المتمثلة في الدستور، ولذلك انحاز الرئيس برهم صالح للشرعية الثورية ولوح بالاستقالة في خطابه للبرلمان، ما زاد من حدة الضغوط عليه من قبل بعض الكتل السياسية التي اتهمته بمخالفة الدستور. استمرار حالة الانسداد السياسي في العراق ينذر بتداعيات سلبية سواء على المشهد السياسي أو على العراق ككل، فمن ناحية فإن استمرار الاحتجاجات والتظاهرات ووقوع أعمال عنف وقتل يؤدي إلى استمرار عدم الاستقرار السياسي في البلاد، كما أن رفض الكتل السياسية التجاوب مع المحتجين وتقديم تنازلات جوهرية والتمسك بالدستور سيزيد من تعقيد المشهد وإطالة أمده، خاصة أن المحتجين أعلنوا عدم التراجع حتى تتحقق مطالبهم ومنها اختيار رئيس وزراء مستقل، ولا شك أنه ينبغي تطبيق المرونة في تفسير وتنفيذ الدستور، فرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي ذاته يعتبر مستقلاً، لأنه لم يكن ينتمي لأي من الكتل السياسية وكان حلاً وسطاً للخروج من إشكالية تشكيل الحكومة التي استمرت لشهور بعد الانتخابات، وبالتالي فإن اختيار مرشح جديد مستقل من خارج الأحزاب السياسية لا يعد انتهاكاً للدستور، إضافة إلى أنه عندما تتعارض الشرعية الثورية والمجتمعية مع المشروعية القانونية أي الدستور والقانون، يتم إعلاء الشرعية الشعبية باعتبار أن الشعب هو الذي وافق على الدستور ويمكن له تغييره.

تداعيات سلبية

كما أن استمرار حالة الانسداد السياسي ستكون له تداعيات سلبية على الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في العراق، وذلك مع هروب الاستثمارات الأجنبية ومنع دخول استثمارات جديدة في ظل الأوضاع الحالية، كذلك تعطل حركة العمل والتنمية ما يؤثر سلباً في المواطن العراقي وفي مستوى معيشته اليومية، في ظل عدم وجود حكومة قوية تحظى بالشرعية القانونية والشعبية بما يساعدها على محاربة الفساد وتحقيق التنمية والحفاظ على وحدة واستقرار العراق.
كما أن هناك تداعيات سلبية أخرى لحالة الانسداد السياسي وهي تزايد حدة الاستقطاب والانقسام داخل النخبة السياسية العراقية، خاصة داخل البيت الشيعي، مثلما هو الحال بالنسبة لتزايد الفجوة بين تيار «سائرون» بزعامة مقتدى الصدر والكتل السياسية الأخرى خاصة «تحالف البناء»، كما أن استمرار الأوضاع الحالية ينذر باتساع دائرة الاحتجاجات في العراق خاصة في محافظات الوسط والشمال، وهو يشكل تحدياً كبيراً أمام العراق وقد يستغل تنظيم «داعش» هذه الأوضاع للعودة مرة أخرى وممارسة أنشطته.
وبالتالي استمرار غياب التوافق بين الحراك والكتل السياسية واستمرار الصراع بين الشرعية الثورية والشرعية القانونية يجعل العراق الآن في مفترق طرق كبير، فإما تجاوز تلك المرحلة وتحقيق الاستقرار والتنمية من خلال تجاوب الطبقة السياسية مع مطالب المحتجين، وإما استمرار التعنت وبالتالي دخول العراق في نفق مسدود واحتمالات تصاعد الموقف وصعوبة السيطرة عليه.

* خبير العلاقات الدولية في «الأهرام»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"