الغاز الروسي.. يلوث علاقات أوروبا بأمريكا

02:58 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نورهان الشيخ*

أحدثت الحزمة الأخيرة من العقوبات الأمريكية على مشروع «السيل الشمالي 2» صدعاً جديداً في علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين. ويتضمن المشروع مد خطين لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا مباشرة عبر قاع بحر البلطيق دون المرور بدول ترانزيت، بسعة إجمالية تصل إلى 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
يأتي المشروع ضمن شبكة من الخطوط التي تنقل الغاز الروسي مباشرة إلى أوروبا بهدف تلبية احتياجات الأخيرة المتزايدة من الطاقة، من بينها «خط يامال» لألمانيا عبر بيلاروسيا، و«السيل الشمالي 1» لألمانيا عبر بحر البلطيق. وسبق أن استطاعت الولايات المتحدة عرقلة مشروع «السيل الجنوبي» نهاية عام 2014، والذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى دول جنوب أوروبا عبر قاع البحر الأسود. وقد فرضت واشنطن سلسلة من العقوبات بهدف عرقلة مشروع «السيل الشمالي 2» أيضاً، كان آخرها تلك التي أقرها الرئيس الأمريكي ترامب يوم 20 ديسمبر على أفراد وشركات وسفن عاملة في مد القسم البحري من خطي الأنابيب «السيل الشمالي 2» و«السيل التركي»، ومن المقرر أن يضخ الأخير الغاز من روسيا إلى تركيا، وبعض دول أوروبا عبر قاع البحر الأسود والأراضي التركية، وتبلغ قدرته الإجمالية 31.5 مليار متر مكعب سنوياً.

الاتحاد الأوروبي يدين

وعلى الفور استنكر الاتحاد الأوروبي العقوبات الأمريكية، وأبدى معارضته من حيث المبدأ فرض عقوبات على شركات أوروبية تمارس أعمالاً مشروعة، كما دانت الحكومة الألمانية العقوبات الأمريكية، معتبرة أنها تمثل تدخلاً في شؤونها الداخلية، وتؤثر في شركات ألمانية وأوروبية. وتعتبر أوروبا «السيل الشمالي 2» شريان حياة جديداً لها، وتعول عليه ألمانيا كثيراً في تنفيذ خططها الرامية لتقليل الاعتماد على الطاقة النووية والفحم. ويملك كونسورتيوم مكون من خمس شركات طاقة أوروبية 50 % من المشروع، 10 % لكل منها، في حين تملك شركة «غازبروم» الروسية ال 50 % الأخرى. وقد استجابت شركة Allseas السويسرية الهولندية للعقوبات الأمريكية، وعلقت أعمالها، وسحبت سفنها المشاركة في المشروع. في حين أكد وزير الطاقة الروسي أن موسكو تستطيع إكمال المشروع حتى في غياب الشركات الأوروبية، وأن روسيا قادرة على تنفيذ كل الأعمال الضرورية، لذلك فإنها ماضية قدماً في استكمال المشروع الذي تم الانتهاء من 60% منه بالفعل.
تحاول الولايات المتحدة تبرير العقوبات المفروضة من جانبها باعتبارات معلنة تتضمن حماية أوروبا من الهيمنة الروسية، وتحكم موسكو في إمدادات الغاز التي تعني الحياة بالنسبة لأوروبا. وناشد السفير الأمريكي في برلين ريتشارد جرينيل وزميليه في الدنمارك وبروكسل، كارلا ساندس وجوردون سوندلاند، شركاء ألمانيا دعم مقترحات تشريعية تهدف إلى وضع ضوابط تنظم خط أنابيب «السيل الشمالي 2»، بحجة أنه يمكن أن يزيد من تعرض أوروبا لعمليات ابتزاز روسية في مجال الطاقة، وأن تبعية الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي تنطوي على مخاطر لأوروبا والغرب بشكل عام، وأن الخط سيسمح بنشر قوة روسيا وتأثيرها عبر بحر البلطيق، وسوف يُمكن روسيا من مواصلة تقويض سيادة أوكرانيا واستقرارها. كما ستمكن إيراداته روسيا من تمويل تقويض المؤسسات الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة، ويدعم واشنطن في موقفها أوكرانيا وبعض دول شرق أوروبا وخاصة بولندا.

رفض التبريرات الأمريكية

إلا أن رد الفعل الأوروبي على العقوبات الأمريكية أوضح أن الأوروبيين يدركون أن المصالح الأمريكية هي السبب الحقيقي لفرض مثل هذه العقوبات، وأن واشنطن تسعى لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الدول الأوروبية المعنية. فقد أبدت واشنطن استعدادها أكثر من مرة لإمداد أوروبا بالغاز المسال، ويعتبر ضغط واشنطن على أوروبا من أجل استيراد المزيد من الغاز المسال الأمريكي أحد الموضوعات المثارة في النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي مقابل تعليق الولايات المتحدة تهديداتها بفرض رسوم إضافية على وارداتها من السيارات الأوروبية، عرض الاتحاد الأوروبي منح الشركات الأمريكية تسهيلات لتصدير إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال إلى دول الاتحاد. وكان ذلك موضع مباحثات عدة بين الجانبين، منها تلك التي جرت في فبراير الماضي بين وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير ومسؤولين أمريكيين في برلين.
في هذا الإطار، يدرك الأوروبيون أن الهدف الرئيسي من العقوبات هو إعطاء دفعة للغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة إلى أوروبا. فقد جعلت ثورة الغاز الصخري من الولايات المتحدة مصدراً مهماً لتصدير الغاز المسال إلى بقية دول العالم، وخاصة أوروبا التي تعد أهم الأسواق العالمية للغاز، كما أنها الأقرب والأكثر جدوى اقتصادياً لواشنطن. وبدأت الأخيرة بالفعل في تصدير غازها المسال لأوروبا منذ عام 2016، إلا أن صادرات الغاز الأمريكي لأوروبا ما زالت أقل بكثير مما تطمح إليه واشنطن، ومن قدرة السوق الأوروبية على الاستيعاب، وما زال الأخير أميل إلى استيراد الغاز من روسيا باعتباره الأقل سعراً من نظيره الأمريكي، كما أنه الأيسر في النقل والإمداد، حيث ينطلق الغاز مباشرة من روسيا إلى أوروبا، خلافاً للغاز الأمريكي المسال الذي ينقل بالسفن.
إن الاتحاد الأوروبي ينطلق من الجدوى الاقتصادية لإمدادات الغاز الروسي، خصوصاً أن روسيا تدير هذه المشروعات في إطار من الشراكة المشتركة وحسن الجوار.

استقلالية أوروبا

في هذا السياق ينطوي الموقف الأوروبي على العديد من الدلالات في ما يتعلق بالعلاقات الأوروبية الأمريكية وزيادة النزعة الاستقلالية في أوروبا، وسعيها لتحقيق مصالحها في مواجهة الضغوط الأمريكية المتزايدة، وعدم مراعاة واشنطن لمصالح الشركاء الأوروبيين في العديد من القضايا الاستراتيجية والاقتصادية، ومنها الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على واردات الصلب والألمنيوم والسيارات القادمة من الاتحاد الأوروبي، ومطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدول الأوروبية أعضاء لدول حلف شمال الأطلسي (الناتو) بزيادة النفقات الدفاعية إلى 4% من الناتج المحلي، واضطرارهم إلى الالتزام بزيادتها إلى 2% على الأقل بحلول عام 2024، والانسحاب الأمريكي من معاهدة الحد من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى (INF) مع روسيا، والتي تضع العواصم الأوروبية في مرمى الصواريخ الروسية.
كل هذه القضايا الخلافية وغيرها بين ضفتي الأطلسي أدت إلى منحى أكثر استقلالية، وخاصة لدى دول غرب أوروبا، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا، ووصلت حد حديث الأخيرة على لسان الرئيس ماكرون عن «جيش أوروبي»، و«هيكل أمني أوروبي جديد» بالتعاون مع روسيا، الأمر الذي انعكس في استئناف محادثات «2+2» الفرنسية الروسية عقب انقطاع دام سبع سنوات، وعقد قمة «رباعية نورماندي» بين قادة روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا، في 9 ديسمبر في باريس، بعد توقف دام أربع سنوات.
إن الخلاف حول الغاز الروسي هو أحد أبعاد فجوة تتسع تدريجياً بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض وسياساته تحت شعار «أمريكا أولاً» على النحو الذي يهدد تماسك التحالف الغربي وربما استمراره.

*أكاديمية وباحثة مصرية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"