الفن..لحظة طمأنينة

02:47 صباحا
قراءة 7 دقائق

القاهرة: مدحت صفوت

مع انتشار الفيروس المستجد كورونا، أو «كوفيد 19» في العالم أجمع، ودخول أغلب الدول في حالة من الانعزال كإجراء وقائي، سادت حالة من الهلع والرعب، يراها البعض نتيجة طبيعية، الأمر الذي يكسب أي محاولة طمأنة أهميتها، ومؤكد أن الفنون والآداب واحدة من الوسائل التي يمكنها أن تزرع الأمل في غد أفضل، وأكثر أماناً، وسلاماً.
إن إصابة مئات الآلاف، واقتراب عدد الحالات من نحو 300 ألف مصاب كورونا في العالم، جميعها تؤكد أنه كما لا غنى عن العلم والمعرفة لمواجهة الفيروس اللعين، فمن المؤكد أيضاً ضرورة التماسك النفسي، والثبات الانفعالي في مواجهة الكآبة.
في مقالها المعنون ب«لماذا من المهم أن تكون مبدعاً»، ترى الكاتبة الأمريكية كورتني كارفر، أن ممارسة الإبداع قد تمنحك حياة أطول، حسبما تنقل من مجلة Scientific American
نتائج دراسات بعض الباحثين، وما يخص منها تقليل نسب الوفيات، ويستشهد مؤلف كتاب «العادات الذرية» جيمس كلير، بنجاح الإبداع في تقليل المشاعر السلبية، ومكافحة التوتر والقلق، ما يعود في النهاية بالإيجاب على الحالة الصحية لطرفي العملية الإبداعية، مؤلفين، أو متلقين.
ويرى كلير الذي وصل كتابه لقائمة نيويورك للأكثر مبيعاً، أن الإبداع يساعدك على أن تجد حلًا أفضل لمشكلاتك الحياتية، والعملية، فبدلًا من التفكير على نحو خطي، ومنطقي يمكن لجانبك الإبداعي أن يقترب من رؤية تبدو فانتازية لكنها قابلة للتطبيق، فكل تقدم في تاريخ البشرية بدا مستحيلًا في لحظة ما، هنا تعمل الفنون على رؤية أي ظاهرة بشكل مختلف، وإعادة مساءلة أي يقين ثابت، ما يفتح الباب لكل جديد.
كورتني كارفر، تذهب إلى دور الفنون في تقبّل أي إخفاقات، والتعامل مع الحياة كمباراة رياضية، جولة رابحة وأخرى خاسرة، لكن في الحالات جميعها يربح الإنسان مزيداً من الخبرة، وتكسب البشرية رصيداً من الثقة بالذات، وعلى استعداد لتحمّل المخاطرة، ويعد الانخراط في العملية الإبداعية أداة لبناء هذه الثقة، إذ إن إيمان الفنان بأن الفشل وارد يساعده في التحرر من الخوف من التجارب الجديدة، والهلع نصف أسباب غرق من يسبح.

ضد الموت

بالنسبة إلى الكتابة، نعتقد أنه بات معروفاً لدى أي متابع ما يمكن أن يزرعه الأدب من طاقة أمل، ولما يحمل الهدف السابق من غرض نبيل، خصص العرب القدامى في كتبهم النقدية باباً عُرف بأدب التفاؤل، الذي زخر بما قاله العرب شعراً ونثراً في قيمة التفاؤل، وأهميته، حتى بدت سارت تلك الكتابات مسرى الحكم، كقول أبي الطيب المتنبي «لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلاّ غَيرَ مُكتَرِث، ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَكَ البَدنُ/ فَمَا يُديمُ سُرُورٌ ما سُرِرْتَ بِهِ، وَلا يَرُدّ عَلَيكَ الفَائِتَ الحَزَنُ»، وصولًا إلى المقولة الشهيرة المنسوبة لأبي إسماعيل الطغرائي «أعلل النفس بالآمال أرقبها، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل».
«لولا فسحة الأمل» هي الشرط الضروري لاستمرار الإنسان على قيد الحياة، كما كانت سبباً أساسياً في بقاء البشرية التي نجحت في التكيف مع متغيرات البيئة طوال التاريخ، ليوثق الإنسان مسارات صراعه كدروس وعبر للأجيال اللاحقة، وكشارة تأكيد أن الأيام تسير في طريقها، وما على الإنسان إلا أن يجاريها حياة، وفناً.

تناغم

إن فعلي القراءة والكتابة، كفعلين مرتبطين لا ينفصلان، على الأرجح، جهد للسيطرة بطريقة ما على العالم الذي نعيش فيه، ومحاولة لإعادة إنشائه على نحو يرضي شعورنا بما يجب أن يكون عليه العالم، وأن يكون، ما يعني إكساب متعاطي الأعمال الأدبية فسحة من الأمل في التغيير، واستمرار الحلم بآت أفضل حالًا، يعني مقاومة الاندثار، والتمسك بالحياة.
الأدب ممارسة ضد الموت، تسجيل باللغة، وفيها، توثيق للحياة، وما تشمل من جمال، وقوة، ورعب، وخوف، أداة تمكننا من استعادة المفردات المشار إليها فيما بعد، أو حال أراد الناس السيطرة على العالم الفوضوي الذي يحيط بهم. كما أن الكتابة تستهدف، ضمن أهدافها، خلق بيئة من التعاطف وزيادة رقعة المتضامنين مع قضية ما، ويمكن للبشر أن ينهضوا من أنفسهم ويمدوا إلى الآخرين أياديهم ويعيشوا معاً.

الوقوع في الحب

هل يمكن أن تصدق أن الفنّ التشكيلي يلعب دوراً في إسعاد البشرية وتنمية الأمل في النفوس، بل الشفاء من الأمراض؟ الأمر ليس فقط بتدريب الذائقة على رؤية المناظر الخلابة والألوان المتناسقة، فثمة دراسات تشير إلى أبعد من ذلك، وليس شائعاً تأثير اللوحات الفنية في إفرازات «دوبامين» المعروف باسم «هرمون السعادة».
في هذا السياق، أكدت دراسات عالم الأعصاب بجامعة لندن، والفنان اللبناني البريطاني سمير زكي، أن بمجرد التحديق في الأعمال الفنية يجري تحفيز بعض خلايا المخ، وهي نفسها التي تحفز حين يقع الإنسان في الحب، وكلاهما يعني إنتاج الدماغ البشرية لهرمون «دوبامين».
وتشير إحدى الدراسات إلى أن الناجين من إصابات «السكتة الدماغية» يعيشون حياة أفضل، حال اهتمامهم بالفنون التشكيلية، ويمتلكون طاقة أكبر من نظرائهم الذين لا تربطهم صلة بالفنون، ويصبحون أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب، أو القلق.
نتائج الدراسات المشار إليها آنفاً ليست مجرد توقعات، ولا ضروباً من الأمنيات، إنما هي حلقة ضمن سلسلة كبيرة معروفة في العالم الغربي باسم علم نفس الإبداع، وهو يهتم بجانب دراسة نفسية المبدع من ناحية، وتأثير الإبداع في الإنسان بصفة عامة، من ناحية أخرى، ولعل اسم المفكر المصري شاكر عبدالحميد، من أهم الكتّاب العرب في هذا المضمار.
في الأربعينات من القرن الماضي، طوّر عالم النفس الأمريكي إبراهام ماسلو، التسلسل الهرمي لاحتياجات الإنسان، المعروف باسم «تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات»، وجاءت الاحتياجات الفسيولوجية في قاعدة الهرم، وضمت الطعام، والشراب، وضبط التوازن، والجنس، بينما حلّت الحاجة لتحقيق الذات في قمة الهرم، ويأتي الفن والإشباع الجمالي ضمن أدوات تحقيق الذات، وما يرتبط بالمشاعر وإشباع العواطف، وهي مسألة تنتمي إلى مجالات الخبرة الجمالية، ما يعني اعتبار الحاجة للفن أداة رئيسية من أدوات التعبير عن الذات.
أما التشكيلية الأمريكية روبي بينفي، فرصدت طرقاً تشكيلية قد تحسّن من جودة الحياة، منطلقة من رؤية الأديب والفيلسوف والشاعر الأمريكي رالف والدو إيمرسون، بأن الفن هو خلق الجمال، وأن حب الأخير هو الحياة نفسها، كما أوصت بينفي بأن يحيط الفرد نفسه بقطع ديكور جمالية تجلب له السعادة، وتبث في نفسه الهدوء، فالفن يعرف كيف يسلك إلى الأرواح، إلى الذات الداخلية في الإنسان، وهو قادر على أن يساعدنا على فهم ذواتنا بالفعل.

حياة مثيرة

الفنان الأمريكي هاريل فليتشير، يعود بنا إلى السؤال الأبدي: ما الفن؟ قبل أن يكشف لماذا يلجأ إلى الفن عموماً. وفي جوهر تعريفه يتوسع التشكيلي المرموق في كاليفورنيا، إذ يرى أن أي عمل، أو فعل يسميه الإنسان فناً هو الفن، وفي الوقت الذي قد لا يرضى الأكاديميون بهذا التعريف المُذيب للفواصل بين ما هو فني، وغير الفني، فإنه أي التعريف، يجعل ممارسة الحياة هي الفن في جوهره.
يقول فليتشر «لا يوجد جوهر مخصوص في الفن، ولا يمكننا إجراء تحليل كيميائي لتحديد ما إذا كان شيء ما هو فن، أم لا. بدلًا من ذلك، أشعر بأن تسمية شيء ما بالفن هو في الحقيقة مجرد إشارة إلى القيمة، التي يمكن أن تكون جمالية، وثقافية، ومالية، وما إلى ذلك».
هنا يصبح الفن هو الحياة التي تسمح للفرد بمقابلة أشخاص لا يقابلهم عادة، والسفر إلى الأماكن التي لا يذهب إليها عادة، والتعرف إلى الموضوعات التي لم يكن يعرف أنّه سيهتم بها. الفن ما يجعلنا محظوظين بحياة مثيرة، وتأدية الأعمال التي تكسب الأيام معنى.


ضد النسيان


في تجربة تبدو غريبة نسبيّاً، ولطيفة في الوقت نفسه، طوّرت منظمة أوروبية خيرية باسم «Suffolk Artlink
» برنامجاً تدريبياً لمقدمي الرعاية الإبداعية، يخص كبار السن الذين يعانون مقدمات فقدان الذاكرة، أو النسيان المرضي، ويتلمس المشروع الغناء كوسيلة للمساعدة في القدرة على التعافي.
وانتهى البرنامج الذي أنتج عرضاً غنائياً للمسنين ومقيمي دور الرعاية، إلى أن الغناء يعمل على تحسين المسارات العصبية، والحفاظ عليها من خلال انتظام التنفس، وحركة الذاكرة أثناء الأداء، وكيفية تحفيز المخ على التذكر من خلال ترابط فريق المؤدين، وتشجيع بعضهم بعضاً، فضلًا عن القدرة على التعبير عن المشاعر من خلال الأداء الغنائي، وإثارة الذكريات الطيبة، كذلك إكساب المشاركين مناعة أكبر ضد الاكتئاب من خلال إعادة توجيه وجهات نظرهم السلبية إلى أخرى إيجابية في الحياة.


مواصلة الدرب


في أغنية «عليّ صوتك بالغنا» الشهيرة، مثلما يحثُ المطرب محمد منير على الغناء يحرض فعلياً على الرقص، كفعل تأكيد على الوجود، وتحقيق الحلم، ومواصلة السير، حتى إن انكسرنا يوماً ما. وهناك على ضفاف نيويورك بأمريكا، قررت جينا جيني المساهمة في ترميم ذوات الناجيات من العنف الأسري، والمصابين بفيروس نقص المناعة البشرية «إيدز»، عن طريق الرقص.
وفي عام 1991، أسست جينا مؤسسة «Gibney Dance» لتحقيق هدفين، الأول تعليم الرقص المعاصر، والآخر المساعدة في فهم معطيات الحياة والتعامل معها لبعض الفئات، خاصة مرضى «الإيدز»، استناداً إلى أن الفن قد يلحم الأشياء ببعضها بعضاً، وإلى أن الجسد يمثل سجلًا، «كتالوج»، لما مرّ به الإنسان طوال حياته من حوادث، أو مراحل فكريّة، تقول جينا «جسدك مجلة، كل ما تمر به يدوّن فيها».
في الرقص لا حاجة للغة الأبجدية، والصوتية، حركاتك تكفي لمعرفة ما يدور داخلك، وتكشف عن مكنوناتك، ما يسهم في معرفة الخلل النفسي، أو سبب الألم السيكولوجي، ومن ناحية العلاج يفرز الجسد أثناء حركات الرقص هرمونات تحسّن المزاج والنفسية، وحسب موقع مؤسسة «Gibney Dance
» تروي المدربة الأمريكية «لا يحتاج الرقص إلى شرح، أو تعليق، ففي أروع العروض التي شاهدتها، رقصت ضحية من ضحايا العنف الأسري في غرفة اجتماعات صغيرة، لم تكن راقصة محترفة، تدربت، ثمّ ابتكرت رقصتها، الغريب لم يكن يعلم الكثيرون ما مرت به الراقصة من مآسٍ لا تصدق، ومع ذلك شعر الحضور بعمق الحزن في أدائها، وهنا تكمن قوة الفن، أن تشعر بالأشياء وعلى نحو عميق، من دون الحاجة إلى الكلمات».
وبشأن الطمأنينة، قد تساعد جلسات العلاج بالرقص في تحسّن من يعاني الوسواس القهري، والاكتئاب،وقلة الثقة بالنفس، وعدم الثبات الانفعالي، وسلوكات إيذاء النفس، واضطرابات القلق، واضطرابات الأكل، وضغوط العمل، والأمومة، والمشاكل الزوجية، وبالتالي يصبح ضرورياً أن يمارس الناس الفن، وأن يؤدونه لرفع قدرتهم النفسية على مواجهة الكوارث، كانتشار الأوبئة مثلًا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"