القصابون في خان الخليلي يستعدون للرحيل

أقدم الفنون اليدوية مهددة بالانقراض
00:49 صباحا
قراءة 4 دقائق
القاهرة: «الخليج»

تقف ورشة عثمان القصبي في منطقة خان الخليلي بالقاهرة، مثل حارس عجوز لواحدة من أعرق المهن اليدوية التي عرفتها مصر على مدار أكثر من 1000 عام، وحولت خلالها أنامل القصابين المهرة، قطع الصوف الأسود إلى لوحات فنية تنطلق بالجمال والفخامة.

وتعاني مهنة التقصيب في مصر، من مخاطر تهددها بالاندثار، بعد قرون قدمت خلالها للحضارة الإنسانية، العديد من الأعمال التراثية رائعة الجمال والفخامة، إذ يشكو القصابون من ندرة المواد الخام المستخدمة في تلك الصناعة، أو زيادة تكلفتها ما يرفع الكلفة النهائية لمنتجاتهم التي لا يقبل عليها، إلا كل ذي ذوق رفيع.
تحترف عائلة القصبي تلك المهنة منذ عقود من الزمان، ويتوارثون أسرارها جيلاً بعد جيل، حتى أن ورشتهم الصغيرة في منطقة الجمالية، تحولت إلى مقصد للباحثين والزوار على حد سواء، نظراً لما تضمه من قطع فنية غاية في الجمال، تمثل أبرز تجليات فن السيرما في مصر، على مدار التاريخ.
ويعمل في ورشة القصبي أكثر من 10 من الأبناء والأحفاد، جميعهم تخصصوا في أعمال السيرما، والكتابة على القماش القباطى، وهو نوع من القماش المصري المصنوع من الكتان المبيض، تزخرفه العائلة بأجمل الرسوم والخطوط والأشكال الإسلامية، لتقدم نموذجاً في فنون الزخرفة المصرية.
تفخر عائلة القصبي بأن مؤسّسها الأول، كان واحداً من أمهر القصابين الذين تولوا زخرفة كسوة الكعبة المشرّفة التي ظلت على مدار عقود من الزمان تخرج من «دار الكسوة» التي أنشئت في مصر من أجل ذلك، حتى توقف إرسال الكسوة من القاهرة، بعد إنشاء المملكة العربية السعودية أول مصنع لكسوة الكعبة.
ويقول عثمان القصبي: «خرجت أول كسوة للكعبة من مصر في شهر ذي القعدة من العام 1220هجرية، الموافق شهر يناير/كانون الثاني من العام 1806 ميلادية، وكان ذلك في عصر محمد علي باشا، واستمرت مصر في نيل هذا الشرف العظيم، وإرسال الكسوة بانتظام وبصورة سنوية، حتى أنها استحدثت منصب (أمير الحج) للإشراف على صناعة الكسوة التي كانت تخرج في قافلة وسط احتفالات شعبية ورسمية ضخمة، حتى توقفت عن إرسال الكسوة مطلع الستينات، بعد تشغيل مصنع (أم القرى) الذي أمر الملك عبدالعزيز آل سعود بإنشائه في المملكة لأجل هذا الغرض».
ظلت عائلة القصبي تعمل في دار الكسوة التي أنشئت في حي الخرنفش مطلع القرن الماضي، حتى العام 1962، عندما توقفت الدار عن صناعة الكسوة، لتفتتح العائلة ورشتها بمنطقة خان الخليلي، لتقدم لزوار الحي العتيق، خلاصة خبراتها في تلك الصناعة، من خلال لوحات فنية رائعة الجمال.
ويروي عثمان القصبي، كيف كان والده يحكي له عن مراحل صناعة كسوة الكعبة المشرفة، من الحرير الطبيعي الخالص، المصبوغ باللون الأسود، والمنقوش عليه بخيوط الذهب جملة التوحيد «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، و«الله جل جلاله»، و«سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» و«يا حنّان يا منّان».
يقول: «يوجد تحت الحزام وعلى الأركان سورة الإخلاص، مكتوبة داخل دائرة محاطة بشكل مربع من الزخارف الإسلامية، ويبلغ ارتفاع الثوب نحو 14 متراً، يعلوها حزام الكسوة الذي يوجد في الثلث الأعلى من هذا الارتفاع، بعرض 95 سنتيمتراً، مكتوب عليه بعض الآيات القرآنية، ومحاط بإطارين من الزخارف الإسلامية، ومطرّز بتطريز بارز مغطى بسلك فضي مطلي بالذهب».
لا يزال القصبي يحتفظ ببعض القطع الصغيرة التي حصل عليها والده من كسوة الكعبة، التي صنعها بيده مستخدماً تلك الأدوات البسيطة المكونة من مجموعة الإبر مختلفة الأحجام، والخيوط المذهبة بالإضافة إلى قطعة البلاستيك التي ما زالت توضع على بعض الأصابع، لتحافظ عليها من الوخز أثناء العمل.
يعرف آل القصبي فنون الخط العربي، بخاصة الخط الكوفي الذي يستخدم في العديد من أعمال السيرما، نظراً لما يتميز به من رشاقة في الانحناء على قماش الشموازيت الأسود. ويقول أحمد عثمان، أحد أبناء الجيل الرابع من العائلة: «تمر صناعة السيرما والتقصيب بثلاث مراحل أولها الرسم والتصميم الذي يتم على ورق (الكلك)، إذ نكتب الأشكال المراد كتابتها، قبل أن نشرع في مرحلة (التخبيش) وفيها نمر على الأحرف التي صممت على الورق بإبرة رقيقة لتحديد معالم الخط، ثم تأتي مرحلة الطباعة على القماش بواسطة ورق الكرتون المقوّى الذي يُحفر بمقص دقيق، ويوضع فوق الطباعة التي على القماش وبعد ذلك تربط بالخيوط عن طريق الإبرة».
وتعد مرحلة الحشو هي الأهم في مراحل التقصيب، وفيها يتم «حشو» الحروف بخيوط قطنية سميكة تساعد على بروز الأحرف والكلمات، تمهيداً لمرحلة التصنيع الفعلي، التي تُجهّز خلالها خيوط الذهب أو الفضة، التي تلف على قطعة خشبية تسمى «الفتيلة»، وهي مصنوعة من خشب «الأبنوس»، ثم يملأ القصابون الخطوط بخيوط الذهب والفضة.
تتراوح أعمال القصابين في مصر، بين صناعة اللوحات القرآنية، ولوحات أخرى تضم بعض المناظر الطبيعية الخلابة، التي توضح مهارة القصاب، وامتلاكه لأدواته، فضلاً عن أعمال الخيامية التي يجري تطريزها بخيوط عادية من الكتان، التي تستخدم في أعمال الديكور وخلافه، وإن ظل القصابون الذين يعملون في فنون السيرما، هم الحراس الحقيقيون لتلك المهنة التي توشك على الانقراض.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"