بوتين يتحدى الغرب من القرم

03:59 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

مرة أخرى يتحدى فلاديمير بوتين الغرب بزيارته إلى شبه جزيرة القرم؛ ليشهد احتفالات واسعة؛ بمناسبة مرور خمس سنوات على استعادة روسيا شبه الجزيرة الاستراتيجية بالغة الأهمية (في 18 مارس/آذار 2014)؛ بعد استفتاء شعبي وافقت فيه أغلبية ساحقة من السكان على الانضمام إلى روسيا؛ وليفتتح مشروعات في مقدمتها: محطتان كبيرتان؛ لتوليد الطاقة الكهربائية، بما يكفي تماماً لسد النقص في احتياجات القرم من الكهرباء؛ لأغراض التوسع الصناعي والسياحي والعمراني.
إذا كان الغرب لا يعترف بشرعية انضمام شبه الجزيرة إلى روسيا، ويعد زيارات بوتين أو غيره من المسؤولين الروسيين الكبار إليها، وكل إجراء يستهدف تعميق ارتباطها بموسكو، نوعاً من التحدي «للشرعية»؛ فإن زيارة بوتين الأخيرة والاحتفالات الواسعة وافتتاح مشروعات حيوية كمحطتي توليد الكهرباء تتسم بحساسية أكبر؛ لأنها تأتي بعد أسابيع من حادث كبير؛ هو احتجاز روسيا ثلاث سفن أوكرانية حاولت عبور مضيق كيرتس- الواقع بين البر الروسي الرئيسي وساحل القرم-؛ لدخول بحر آزوف، في مخالفة للقواعد التي وضعتها السلطات الروسية، وبرغم النداءات والتصريحات الأمريكية والغربية الغاضبة، فإن روسيا لم تفرج عن السفن الثلاث؛ بل أحالت بحارتها إلى المحاكمة، من دون أن تعير الغرب أي اهتمام.
كما تأتي الزيارة، وما رافقها من احتفالات وافتتاح لمشروع في ذروة احتدام معركة انتخابات الرئاسة الأوكرانية؛ لترش الملح على جراح السياسيين القوميين الأوكرانيين الموالين للغرب، وفي مقدمتهم الرئيس الحالي بترو بوروشنكو، الذي يخوض الانتخابات؛ من أجل ولاية ثانية، والذي دعا الولايات المتحدة وحلف «ناتو» للتدخل العسكري في حادث مضيق كيرتش، ساعياً لتصعيد الموقف؛ من أجل تحسين فرصه الانتخابية؛ لكن دون جدوى.
ومن المعروف أن شبه جزيرة القرم تتمتع بأهمية استراتيجية بالغة؛ إذ تقع في وسط البحر الأسود، ويستطيع من يسيطر عليها أن يسيطر على الحركة الملاحية فيه، خاصة في وقت الحرب، كما توجد على سواحلها مواقع ممتازة؛ لإقامة قواعد بحرية عسكرية خاصة ميناء سيفاستوبول، القاعدة العسكرية الرئيسية والتاريخية للأسطول الروسي منذ القرن الثامن عشر- وكانت القرم قد انتقلت إلى التبعية لأوكرانيا بمقتضى إجراء إداري عام 1954- حينما كانت أوكرانيا وروسيا جمهوريتين سوفيتيين- ثم خرجت مع أوكرانيا عند انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، واضطرت روسيا لاستئجار القاعدة العسكرية في سيفاستوبول وبعض المواقع الأخرى في القرم من الدولة الأوكرانية بمقتضى اتفاقية تنتهي عام 2017 وتم تمديدها لمدة (25 سنة)، لتنتهي عام 2042.
غير أن إطاحة الرئيس الأوكراني الأسبق بانوكوفيتش في فبراير/شباط 2014، وقدوم القوى الموالية للغرب إلى السلطة، وإعلان هذه القوى نيتها طرد روسيا من القرم، وإحلال قوات أمريكية وأطلسية محلها، دفعت موسكو لتحريك قواتها الموجودة في القرم بسرعة؛ للسيطرة على شبه الجزيرة، ثم إجراء الاستفتاء الذي انتهى بموافقة الأغلبية الساحقة من السكان على الانضمام لروسيا (ثلاثة أرباع سكان القرم من الروس)، كما أعلنت مقاطعتا دونيتسك ولوجانسك التمرد على كييف، بدعم من موسكو.
التحرك الروسي أحبط خطة أمريكية- أوروبية لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ومن ثم إلى «الناتو» وأدى إلى مواجهة سياسية كبرى بين روسيا والغرب، وإلى فرض عقوبات أمريكية وأوروبية صارمة ضد روسيا، كبدتها حتى الآن خسائر تقدر بمئات المليارات من الدولارات، ولا تزال تكبد الاقتصاد الروسي خسائر تزيد على المئة مليار دولار سنوياً، فضلاً عن الخسائر الضخمة، التي لحقت بموسكو؛ بسبب لجوء واشنطن إلى تنظيم (إغراق للأسواق النفطية)، وهو ما كلف روسيا خسائر تقدر بمئات المليارات أيضاً.
غير أن قرار الكرملين كان حاسماً: «إن تحمل كل هذه الخسائر الضخمة أهون من أن تجد روسيا دبابات الناتو على امتداد (1500 كم) من حدودها الغربية، التي تمثل خاصرتها الاستراتيجية الرخوة؛ وحيث المراكز السكانية والصناعية الأساسية للدولة الروسية، ومن أن يتحول البحر الأسود- منفذ روسيا إلى المياه الدافئة والبحار الجنوبية- إلى مرتع لسفن «الناتو» الحربية، وأن روسيا لن تتخلى عن القرم (والحدود الغربية) وترضى بالتحول إلى قوة من الدرجة الثانية، مهما كلف الأمر، وستواجه أي محاولة لفرض هذا الوضع عليها، ولو أدى ذلك إلى مواجهة نووية».
وهكذا بدأت روسيا في تحويل شبه جزيرة القرم إلى قلعة حصينة بكل معنى الكلمة بدءاً من عام 2014 حتى الآن، فقد تم نقل (7 غواصات) وعشرات من السفن الحربية من ميناء (نوفوروسيسك) القريب على البحر الأسود إلى قاعدة (سيفاستوبول) الرئيسية وغيرها من موانئ القرم، كما حصل أسطول البحر الأسود على أكثر من (50) سفينة حربية جديدة من بينها غواصات وسفن كبيرة، منها مثلاً ثلاث فرقاطات مزودة بصواريخ (كاليبر) المجنحة، عبرت إلى البحر المتوسط وشاركت في ضرب قواعد الإرهابيين، و(7) سفن إنزال، وسفن مضادة للغواصات، وقوارب للصواريخ المضادة للسفن، من طرازات مختلفة، وقوارب للدورية، وكل هذه السفن تحت قيادة الطراد «موسكفا/ موسكو» المزود بصواريخ (كاليبر) ومنظومات صواريخ الدفاع الجوي.
كما تم نشر قوات للدفاع الساحلي مزودة بطرز حديثة من الصواريخ المضادة للسفن (أرض - بحر) والمدفعية والمدرعات الحديثة. وتم أيضاً نشر أربعة أفواج من الطائرات القاذفة والمقاتلة من طرز مختلفة، أغلبها من طراز «سوخوي» الحديثة، إضافة إلى فوج من طائرات الهليكوبتر المقاتلة (مي- 28) و(مي - 25) و(كا -52) وغيرها.
أما بالنسبة للدفاع الجوي فقد تم نشر منظومات (نيبو إم، ونيبو أوم/ السماء إم وأوم) المتطورة، و4 كتائب من صواريخ (إس -400) للدفاع الجوي، فضلاً عن عدة منظومات من طراز (إس - 300) و(بانتسير) و(يوك إم 2/ وإم 3).
وهكذا تحولت القرم إلى قلعة مدججة بكل أنواع الأسلحة الحديثة (سبوتنيك 18/3/2019).
كما تم بناء (جسر القرم) عبر مضيق كيرتش، بطول (19كم) وكُلفة (حوالي 4 مليارات) وافتتحه بوتين وهو يقود شاحنة عبرت من البر الروسي إلى القرم على رأس رتل من الشاحنات، وينتظر أن يفتتح بنهاية العام جسراً للسكك الحديد موازياً له، وتم نشر كتيبة من صواريخ «بانتسير» قرب مضيق كيرتش؛ لحماية الجسر.
الرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو حاول استخدام حادث كيرتش السابق ذكره، ثم زيارة بوتين الأخيرة للقرم؛ للتصعيد وتحريض الغرب ضد روسيا، سعياً لتحسين حظوظه الانتخابية (الانتخابات يوم 31 مارس الجاري)؛ لكن بلا فائدة حتى كتابة هذه السطور؛ إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن الممثل الكوميدي فلاديمير زيلينسكي يحتل المركز الأول في السباق بنسبة (23%) تقريباً، تليه رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو (13.3%) ثم بوروشنكو (11.5%)، إلا أن هذا لا يعني انعدام فرصته في الفوز فهناك (40 مرشحاً) تتفتت بينهم الأصوات، وقد يتمكن بوروشنكو من دخول الإعادة ضد زيلينسكي أو تيموشينكو، وفي هذه الحالة قد تكون فرصته أفضل للفوز مستغلاً دعايته المعادية بشدة لروسيا، غير أن هذا لن يغير شيئاً من مصير القرم.


* كاتب ومحلل سياسي خبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"