حكم كلام الرسول في‮ ‬الأمور الدنيوية

وما ينطق عن الهوى
01:41 صباحا
قراءة 5 دقائق

يذكر العلماء أن كلامه صلى الله عليه وسلم في‮ ‬الأمور الدنيوية آراء محضة ويسمى‮ (‬إرشادا‮) ‬أي‮ ‬أن أمره صلى الله عليه وسلم في‮ ‬أي‮ ‬شيء من أمور الدنيا‮ ‬يسمى أمر إرشاد‮ وهو‮ ‬يقابل‮ (‬أمر التكليف‮) ‬ومن القواعد الأصولية‮ (‬أن العمل بأمر الإرشاد‮ لا‮ ‬يمسي واجباً‮ ‬ولا مندوباً،‮ ‬لأنه لا‮ ‬يقصد به القربة ولا فيه معنى التعبد،‮ ‬ومن المعلوم أنه‮: ‬لا دليل على وجوب أو ندب إلا بدليل خاص)‮.‬
‮يقول محمد أبو رية في‮ ‬كتاب‮ «‬أضواء على السنة المحمدية‮»: ‬«إن ما ذكره العلماء في‮ ‬ذلك إنما هو لأن الرسل‮ ‬غير معصومين في‮ ‬غير التبليغ‮، قال السفاريني‮ ‬في‮ ‬شرح عقيدته:‮ ‬قال ابن حمدان في‮ ‬«نهاية المبتدئين»: «وإنهم معصومون فيما‮ ‬يؤدونه عن الله تعالى وليسوا بمعصومين في‮ ‬غير ذلك‮». ‬وقال ابن عقيل في‮ ‬الإرشاد‮: ‬«إنهم عليهم السلام لم‮ ‬يعتصموا في‮ ‬الأفعال،‮ ‬ بل في‮ ‬نفس الأداء ولا‮ ‬يجوز عليهم الكذب في‮ ‬الأقوال فيما‮ ‬يؤدونه عن الله تعالى، ‬وقد ثبت أن النبي‮ ‬كان‮ ‬يصدق بعض ما‮ ‬يفتريه المنافقون،‮ ‬كما وقع في‮ ‬غزوة تبوك وغيرها وصدق بعض أزواجه،‮ ‬وتردد في‮ ‬حديث الإفك وضاق صدره به زمناً‮ ‬حتى نزل عليه آيات البراءة فكشفت له الغطاء عن الحقيقة‮».‬


إنما أنا بشر


‮قال القاضي‮ ‬عياض‮: «‬أما أحواله في‮ ‬أمور الدنيا فقد‮ ‬يعتقد الشيء على وجه‮ ‬يظهر خلافه، أو‮ ‬يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع‮»، وفي حديث ابن عباس ‬قال‮ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «‬إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب». ‬ولما نزل رسول الله بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر‮: ‬أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه‮. ‬أم هو الرأي‮ ‬والحرب والمكيدة؟ قال‮: ‬«لا بل هو الرأي‮ ‬والحرب والمكيدة‮». ‬قال‮: ‬«فإنه ليس بمنزل‮! ‬انهض حتى نأتي‮ ‬أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب فنشرب ولا‮ ‬يشربون»‮. ‬فقال‮: «‬أشرت بالرأي‮» ‬وفعل ما قاله‮، وأراد مصالحة بعض عدوه على أن يعطيه ثلث ثمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عن هذه الخطوة،‮ ‬فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا ‬لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها‮.‬
وعن أمور البشر الجارية على‮ ‬يديه وقضاياهم ومعرفة المحق من المبطل،‮ والمصلح من المفسد،‮ ‬قال صلى الله عليه وسلم‮: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ‮ ‬ولعل بعضكم أن‮ ‬يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي‮ ‬له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا‮ ‬يأخذ منه شيئاً‮ ‬فإنما أقطع له قطعة من النار‮»، (‬عن أم سلمة‮) ‬وفي‮ ‬رواية الزهري‮ ‬عن عروة‮ «فلعل بعضكم أن‮ ‬يكون أبلغ‮ ‬من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي‮ ‬له»‮. ‬وهو صلى الله عليه وسلم‮ ‬يجري‮ ‬أحكامه على الظاهر وموجب‮ ‬غلبة الظن بشهادة الشاهد ويمين الحالف ومراعاة الأشبه ‬فأما ما تعلق منها‮ (‬أي‮ ‬معارف الأنبياء‮) ‬بأمر الدنيا فلا‮ ‬يشترط في‮ ‬حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي‮ ‬عليه.


وظيفة الرسل


يذكر المفكر الإسلامي‮ ‬الراحل الدكتور محمد عمارة رحمه الله في‮ ‬كتابه‮ «‬حقائق وشبهات حول السنة النبوية‮»‬،‮ «‬أنه‮ ‬يجب الامتثال إلى ما قاله النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم شرعاً‮ ‬دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي‮، ‬وإن وظيفة الرسل إرشاد الناس إلى طريق النجاح والاستقامة،‮ ‬وإقامة العدل فيهم،‮ ‬وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة والشيم الكريمة‮.. ‬وقد علمنا النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم أن نمتثل لكل ما جاء به عن الله،‮ ‬وأنه لا‮ ‬يجب الأخذ بما ورد عنه في‮ ‬أمور الدنيا».‬
‮ ‬روى مسلم عن موسى بن طلحة عن أبيه قال‮: ‬«مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل،‮ ‬فقال‮: «‬ما‮ ‬يصنع هؤلاء؟» ‬فقالوا‮: ‬يلقحون،‮ ‬يجعلون الذكر في‮ ‬الأنثى،‮ ‬فتلقح،‮ ‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‮: «ما أظن‮ ‬يغني‮ ‬شيئا‮». ‬قالوا‮: ‬«فأخبروا بذلك،‮ ‬فتركوه،‮ ‬فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك»،‮ ‬فقال‮: «‬إن كان‮ ‬ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني‮ ‬إنما ظننت ظنا،‮ ‬فلا تؤاخذوني‮ ‬بالظن،‮ ‬ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به،‮ ‬فإني‮ ‬لن أكذب على الله عز وجل‮». ‬وروى مسلم أيضا عن رافع بن خديج قال‮: ‬قدم رسول الله المدينة وهم‮ ‬يؤبرون النخل،‮ ‬فقال‮: «‬ما تصنعون؟‮» ‬قالوا‮: ‬كنا نلقحه‮. ‬قال‮: «‬لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا» ‬فتركوه فنقص،‮ ‬قال‮: ‬فذكروا ذلك له،‮ ‬فقال‮: «‬إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي‮ ‬فإنما أنا بشر‮». ‬وروى أيضا عن أنس أن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم مر بقوم‮ ‬يلقحون،‮ ‬فقال‮: «‬لو لم تفعلوا لصلح‮». ‬قال‮: ‬فخرج شيصًا،‮ ‬فمر بهم‮ ‬فقال‮: «‬ما لنخلكم؟‮» ‬قالوا‮: ‬قلت كذا وكذا،‮ ‬قال‮: «‬أنتم أعلم بأمور دنياكم‮».‬


تفاسير خاطئة


‮لقد حكم النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم على نفسه،‮ ‬وهو سيد المنصفين،‮ بأنه بشر،‮ ‬وأن أهل كل حرفة أو صناعة أدرى بمسائلها وخفاياها من‮ ‬غيرهم،‮ ‬وأن عصمة الرسل إنما تجب فيما إذا بلغوا عن الله شيئا من شرائعه ونواهيه‮. ‬ومن هنا نعلم أنه لا‮ ‬يجب الأخذ بما ورد عن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم من أمور الدنيا وأحوالها وحرفها وطبها وصنائعها،‮ ‬لأن هذا ليس مما‮ ‬يوحى‮ ‬به إليه من الشرع‮.‬
‮ولكن‮ ‬غفل أكثر المفسرين،‮ ‬أو جهلوا الغرض الذي‮ ‬أنزل له هذا الكتاب الكريم،‮ ‬كما كلّت أفهامهم عن إدراك الآيات الناطقة بما‮ ‬يرمي‮ ‬إليه،‮ ‬فقالوا‮: ‬«إن القرآن لم‮ ‬يترك فناً من الفنون العلمية إلا أتى بشيء من مسائله،‮ ‬فجعلوه كتاب جغرافيا وتاريخ وطبيعة ورياضة وهلم جرا،‮ ‬وادعوا أنه أتى من كل فن بطرف،‮ ‬فحملوه من التأويل ما‮ ‬ينبو عنه،‮ ‬ثم ذيلوا آياته بأشياء أملاها عليهم جهلهم،‮ ‬ووسوست لهم بها شياطينهم،‮ ‬فشوهوه وألبسوه‮ ‬غير لباسه،‮ ‬وصبغوه صبغة أبرزت القرآن والدين وصالح المسلمين بما هم براء منه،‮ ‬فكانوا أضر عليهم من العدو المبين»‮.‬
‮إن المتدبر للقرآن‮ ‬يرى أن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم ما سئل في‮ ‬شيء مما لم‮ ‬يبعث لأجله إلا صرف السائل عن قصده،‮ ‬وتلقاه بغير ما‮ ‬يترقب،‮ ‬تنبيها إلى أنه الأولى والأليق ما هو من حدود الرسل ووظائفهم من الهداية والإرشاد وتبليغ‮ ‬الشرائع،‮ ‬ينوه إلى ذلك قوله تعالى‮: ‬«ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي»، (سورة الإسراء الآية‮: 58) ‬وقوله‮: ‬«يسألونك عن الأهلة قل هي‮ ‬مواقيت للناس والحج»، (سورة البقرة الآية‮: 981)‬،‮ ‬وقوله‮: ‬«يسألونك عن الساعة أيان مرساها،‮ ‬فيم أنت من ذكراها،‮ ‬إلى ربك منتهاها،‮ ‬إنما أنت منذر من‮ ‬يخشاها»، (سورة النازعات الآيات‮: 24-54) ‬فبين الله في‮ ‬هذه الآيات أن وظيفة الرسل الإنذار وتحذير العالم من تلك الساعة التي‮ ‬هي‮ ‬آتية لا ريب فيها،‮ ‬وليس من وظيفتهم تعيين وقتها‮.‬
‮ ‬ومن ذلك أيضاً‮ ‬قوله تعالى‮: ‬«ويسألونك عن الجبال فقل‮ ‬ينسفها ربي‮ ‬نسفا،‮ ‬فيذرها قاعا صفصفا،‮ ‬لا ترى فيها عوجا ولا أمتا»، (سورة طه الآيات:‮): ‬107‮-‬105‮ ‬وتدل هذه الآيات وما سبقها أن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم في‮ ‬إجابته أمثال أولئك السائلين كان‮ ‬يعلمهم ألا‮ ‬يسألوا إلا عما هو من خصيصات الرسالة ومتعلقاتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"