شارلي شابلين ينطق

ضوء
05:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا يعرف الجيل المعاصر الكثير عن أفلام شارلي شابلين الطويلة الصامتة العظيمة مثل السيرك والبحث عن الذهب والأزمنة الحديثة، شارلي شابلين المخرج الممثل الموسيقي والكاتب السينمائي الذي حمل لقب فنان كل العصور. ما يعرض في الزمن الحاضر من أفلام شابلين، خاصة عبر شاشات التلفزيون، هو أفلامه القصيرة التي صنعها في وقت مبكر من عمله السينمائي والتي، على رغم من جرعات الإضحاك الكبيرة فيها، لا تضاهي بحال من الأحوال أفلامه الطويلة.

أحد أفضل أفلام شارلي شابلين الطويلة وأكثرها عمقا من ناحية المضمون والفكر هو فيلم الأزمنة الحديثة. وهو فيلم صامت يعود زمن إنتاجه إلى العام ،1936 أي بعد ما يقارب السبعة أعوام على اكتشاف السينما الناطقة.

كان يطلق على السينما الصامتة لقب الصامت العظيم. لقبت السينما الصامتة بالصامت العظيم، لأن مخرجيها الكبار، ومنهم شارلي شابلين، استطاعوا أن يكتشفوا وسائل بصرية مبتكرة للتعبير أغنتهم عن الصوت والكلام المنطوق، وحين بدأت السينما تنطق تراجع التعبير البصري خطوات إلى الوراء فوصفت بأنها بدأت تثرثر، لهذا رفض كثير من كبار المخرجين في حينه، ومنهم شارلي شابلين، الانتقال من سينما الصامت العظيم إلى السينما التي تثرثر.

كتعبير عن موقفه الرافض للسينما الناطقة ضمّن شارلي شابلين فيلمه الأزمنة الحديثة أغنية منطوقة أداها بطريقة ساخرة فيما هو يرقص في مقهى، مؤلفة من كلمات عشوائية لا رابط بينها، بل أنه استخدم كلمات من لغات عدة وبعضها بلا معنى.

تتوفر في الوقت الحاضر في الأسواق أشرطة دي في دي لمجموعة أفلام شارلي شابلين الطويلة الصامتة، غير أن أفلام شابلين هذه، في نسخها المطبوعة على الأشرطة الرقمية، لا تقدم للجيل الجديد المعاصر من محبي الأفلام في حالتها الأصلية الصامتة، بل تتحول إلى أفلام ناطقة بفضل إضافة حوارات وتعليقات ما كانت موجودة في الأصل، وما كان شابلين ومشاهدو أفلامه في حينه بحاجة لها كي يستوعبوا المعاني العميقة ويفهموا ما يحصل ويضحكوا ثم كي يحزنوا ثم يضحكوا حتى الثمالة، بفضل البراعة الحركية والقدرات البهلوانية التي برع فيها ممثلا والتعبير البصري اللماح الذي أبدعه مخرجا.

شاهدت مؤخرا فيلم الأزمنة الحديثة من خلال نسخة دي في دي مضافا إليها الكلام المنطوق، بمعية مجموعة من الفتيان. لم أتوقف طوال فترة المشاهدة عن الضحك من أعماق القلب، على رغم أنني شاهدت الفيلم سابقا مرارا، أما الفتيان الذين شاهدوه معي فنادرا ما كانوا يضحكون، وذلك على رغم فضولهم الذي كان يدفعهم لمتابعة أحداث الفيلم الذي حثثتهم على مشاهدته كي يتعرفوا على عظمة شابلين. حين تفكرت في الأمر بدا لي الوضع طبيعيا، وأدركت أن الطبعات الجديدة المضاف إليها الكلام المنطوق من أفلام شارلي شابلين الكوميدية (والأصح، التراجيكوميدية)، الصامتة موجهة لجيل ناشئ لم يعرف هذا النوع من الكوميديا الراقية، وهو جيل ليس فقط اعتاد على السينما التي تثرثر وعلى الأفلام الكوميدية القائمة أساسا على النكات التي تعتمد على المفارقات اللفظية، بل وترسخت فيه هذه العادة بفضل إدمان مشاهدة برامج التلفزيون المملوءة بالثرثرة الكلامية التي تغطي على فقر التعبير البصري.

التعبير البصري الذي يستفيد من إمكانيات المونتاج الخلاّق والذي سمح للسينما الصامتة أن تنجح جماهيريا وتتطور فنيا في وقت كانت فيه التقنيات السينمائية بدائية، خاصة بالمقارنة مع التقنيات الرقمية الحالية، وجعلها تستحق عن جدارة لقب الصامت العظيم، هو أمر مختلف كليا عن المؤثرات البصرية التي أصبحت في عصر التقنيات الرقمية المتطورة ذات أولوية قصوى في توجهات السينما الجماهيرية حيث صارت الأفلام تمعن أكثر فأكثر في الاعتماد على المؤثرات البصرية التي تفتح أمام صانعي الأفلام الجماهيرية الترفيهية آفاقا غير مسبوقة لتجسيد كل ما يبتكره الخيال البشري من صور غرائبية مبهرة.

في حين أن التعبير البصري الذي قامت على أساسه السينما الصامتة وأورثته للمخرجين المبدعين زمن السينما الناطقة، بعدما تخلصت هذه السينما من سكرة اختراع الصوت، جعل من السينما فنا مؤثرا ولغة إن صح التعبير، فإن المؤثرات البصرية الرقمية والخدع البصرية صارت تعيد السينما إلى الثرثرة، لكن لا الثرثرة الكلامية فقط، بل أيضا الثرثرة البصرية، فتكثر الصور المتلاحقة والمتداخلة التي تسعى إلى إثارة الدهشة بغرابتها ويقل التعامل مع الصور الواقعية التي تساعد في علاقاتها المتبادلة على الوصول إلى التعبير البصري الفني ذي القيمة الجمالية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"