فنزويلا.. ساحة صراع أمريكية روسية صينية

03:47 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. صدفة محمد محمود

دشنت الأزمة السياسية التي تتفاقم في فنزويلا منذ 23 يناير الماضي عقب إعلان رئيس الجمعية الوطنية خوان جوايدو، نفسه رئيساً انتقالياً، واعتراف الولايات المتحدة به، إضافة إلى ما يقرب من خمسين دولة، بما يتناقض مع نتائج الانتخابات التي جرت في العام الماضي، وأسفرت عن فوز الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، الذي أيدته روسيا والصين وكوبا والمكسيك وبوليفيا، وتركيا وإيران حقبة جديدة من التنافس الجيوستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، على مستقبل النفوذ الإقليمي والعالمي.
واشنطن التي تسعى إلى إطاحة مادورو، لوحت منذ البداية بورقة التدخل العسكري بعد اعترافها بجوايدو رئيساً شرعياً، وأصرت على إرسال مساعدات إنسانية إلى فنزويلا. وفي المقابل تمسكت روسيا بشرعية مادورو، مؤكدة ضرورة الحل السلمي والدبلوماسي للأزمة.
ويرجع التنافس الأمريكي الروسي الصيني في فنزويلا، إلى عوامل عدة، من أهمها: نظرة الولايات المتحدة لروسيا والصين باعتبارهما تمثلان منافساً استراتيجياً لها في أمريكا اللاتينية، حيث تسعى موسكو من وجهة نظر المسؤولين الأمريكيين إلى «تدمير علاقات الشراكة الأمريكية» مع دول أمريكا اللاتينية، وتقويض المصالح الأمريكية في المنطقة، وكذلك تفعل الصين. وفي هذا السياق، يمثل اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخوان جوايدو، أهم اختبار له خلال فترة ولايته الأولى في ما يتعلق بجهود الإدارة الأمريكية لاستعادة النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي، كما أنه بمثابة نقطة انطلاق لاستراتيجية إدارة ترامب، الهادفة إلى التعاون مع بعض الشركاء الإقليميين بطريقة أكثر تنسيقاً.
وفي الوقت نفسه، يحاول الرئيس دونالد ترامب، توظيف الأزمة الفنزويلية داخلياً، في محاولة للفوز بدعم مزيد من الناخبين الأمريكيين، في إطار الاستعداد لانتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة المقرر عقدها عام 2020. وتعتمد استراتيجيته على إخافة الناخبين الجمهوريين من الديمقراطيين، الذين يصفهم بمجموعة من الاشتراكيين الذين سيحولون الولايات المتحدة إلى نسخة من فنزويلا، إذا تولى مرشح ديمقراطي الحكم في البلاد.
وفي المقابل، ترى روسيا في فنزويلا حليفاً مهماً في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة؛ لذلك قدمت لها قروضاً، وضخت استثمارات تقدر بأكثر من 17 مليار دولار منذ عام 1999، وذلك لتطوير صناعة النفط بصفة خاصة، في ظل امتلاك فنزويلا لأكبر احتياطيات مؤكدة من النفط على مستوى العالم، علاوة على أن التحالف الوثيق مع فنزويلا، يمنح روسيا موطئ قدم قوي في نصف الكرة الغربي، وهو الأمر الذي يكتسب أهمية خاصة في عهد الرئيس فيلاديمير بوتين، الذي يسعى إلى ترسيخ مكانة بلاده كقوة كبرى في النظام الدولي؛ لذلك فهو بحاجة إلى أمريكا اللاتينية لإظهار أن روسيا لاعب عالمي، وبمقدورها أن تمارس النفوذ والتأثير خارج حدودها؛ بل في الساحة الخلفية للولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، سعت موسكو إلى تهديد واشنطن في فنزويلا، تماماً مثلما فعلت الولايات المتحدة في أوكرانيا.
وإضافة إلى ذلك، هناك علاقات عسكرية قوية تربط روسيا بفنزويلا، حيث قامت الأخيرة بشراء معدات عسكرية وأسلحة روسية تقدر بمليارات الدولارات؛ لذا فلن يكون من السهل على موسكو أن تسمح بإطاحة مادورو، لتضحي بمصالحها الكبيرة في فنزويلا، وتفقد حليفاً قوياً ومهماً من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية في أمريكا اللاتينية.
وإذا فشلت روسيا في الدفاع عن أحد أصدقائها في مواجهة الولايات المتحدة، فسيؤثر ذلك سلباً في مكانة موسكو ونفوذها على الساحة الدولية.
والتنافس الأمريكي الروسي الصيني في فنزويلا، ظهر بشكل جلي في العديد من الخطوات والإجراءات التي اتخذها البلدان، وكان آخرها قيام روسيا بإرسال طائرتين إلى فنزويلا، كان على متنهما ما يقرب من مئة خبير عسكري، من بينهم النائب الأول للقائد الأعلى للقوات البرية العقيد فاسيلي تونكوشكوروف، وشحنة مساعدات تفوق 35 طناً من المعدات الطبية والإغاثية، معتبرة أن تلك الخطوة تأتي في إطار حماية المصالح الروسية في فنزويلا، كما أنها تندرج في إطار اتفاقيات التعاون التقني العسكري بين البلدين.
ووصف المسؤولون الروس، القرار بأنه يأتي متوافقاً مع «مقتضيات القانون الفنزويلي». وكشفت تقارير إخبارية عن إرسال الصين قوات من جيش التحرير الصيني إلى فنزويلا مطلع الشهر الحالي، وكانت الصين أرسلت قبل ذلك طائرة محملة ب 65 طناً من المساعدات الطبية.
يذكر أن فنزويلا تصدر للصين نحو مليون برميل نفط يومياً، كما أن بكين قدمت قروضاً لكراكاس بقيمة 55 مليون دولار، غير أن واقع الأمر يكشف أن اختيار موسكو تفعيل اتفاقيات التعاون العسكري مع فنزويلا، الموقعة بين البلدين منذ مايو 2001، في هذا التوقيت بالذات، هو بمثابة «ورقة ضغط» ضد تلويح الرئيس الأمريكي المتكرر بالتدخل عسكرياً لإطاحة الرئيس مادورو، خاصة في ظل ما يُتداول من معلومات بشأن وجود قوات مسلحة أو ميليشيات أو مرتزقة من كولومبيا والسلفادور والهندوراس، تستعد لاجتياح الحدود الفنزويلية.
ومما يؤكد ذلك، ما تداولته بعض وسائل الإعلام من قيام القوات المسلحة الفنزويلية بإعادة نشر أنظمة صواريخ «أس 300 في إم»، في منشآت عسكرية قرب العاصمة كراكاس، تزامناً مع وصول بعثة الخبراء الروس إلى البلاد.
وربما يشير التدخل الروسي المباشر إلى صعوبة وضع الحكومة الفنزويلية، مما استدعى تقديم دعم معنوي واستشاري قوي للحكومة والجيش للصمود في وجه الضغوط الأمريكية، في ظل تأكيدات روسيا بقاء العسكريين الروس في فنزويلا «طوال المدة التي تراها حكومة فنزويلا ضرورية».
جدير بالذكر أن الوجود العسكري الروسي في فنزويلا ليس أمراً جديداً؛ إذ سبقه الحديث عن وصول نحو أربعمئة من الروس إلى فنزويلا خلال الأسابيع الأولى من اندلاع الأزمة السياسية هناك، وذلك لتأمين المصالح والاستثمارات الروسية، وعلى رأسها مواقع وتجهيزات لشركة «روس نفط». كما سبق أن وصلت إلى فنزويلا في ديسمبر الماضي، قاذفات استراتيجية روسية (تو 160) في إطار مناورة عسكرية مشتركة.
والخطوة الروسية الخاصة بإرسال خبراء عسكريين إلى كراكاس، أثارت حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث دعا الرئيس دونالد ترامب، روسيا «للخروج من فنزويلا»، مجدداً تهديداته بأن «كافة الخيارات تبقى مفتوحة»؛ بل إن واشنطن ذهبت في موقفها إلى أبعد من ذلك، بتبني مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون لمكافحة نفوذ روسيا في فنزويلا.
ومن جملة ما سبق، يمكن القول إن المشهد الفنزويلي يُوحي بمزيد من التصعيد، في ظل تزايد حالة الاستقطاب الذي يُغذيه الصراع الدولي على النفوذ بين واشنطن من جهة، وموسكو وبكين من جهة أخرى، في هذا البلد اللاتيني الغني بالنفط.
وسيُسهم هذا الصراع، في إطالة أمد الأزمة الفنزويلية وتفاقمها، فالمخاطر كبيرة من الناحية الجيوسياسية؛ إذ تنذر تطورات الأوضاع بعودة أجواء الحرب الباردة مرة أخرى.


* باحثة متخصصة في شؤون أمريكا اللاتينية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"