مأزق الوعي بين التّراث والغرب

00:41 صباحا
قراءة 4 دقائق

ليس من مشكلةٍ يعيشها الفكرُ العربيّ أشد وطأة على إرادة المعرفة فيه من مشكلة علاقته بمَراجعه؛ ما كان فكريّاً منها وما كان من صميم الواقع وموجِباته. وهي مشكلةٌ شديدةُ الوطأة لأنّ هذا الفكر ما اهتدى، في تاريخه المعاصر، إلى إقامة علاقاتٍ متوازنة ومنتِجة بمرجعه الذي يَمتح منه، بل كثيراً ما ألْفَى نفسَه في إحدى حالتين نقيضتيْن وعقيمتين في الآن عينِه: في حالة انجذابٍ كاملٍ إلى مرجع يسُدّ عليه سبيل الاستكشاف وسبيل قياس الفوائد بمقياسٍ نقديّ وواقعيّ؛ أو في حالةِ خصومةٍ صارخة مع مرجعٍ آخر تحْجُب عنه مساحاتٍ من الانتفاع بما قد يكون من خَصيبِ موارده.

إنّ مشكلةً من هذا النّوع ليست هيّنة الخطورة على أيِّ فكر؛ ذلك أنّ عدم معالجتها المعالجةَ الفكريّةَ المناسبة آيِلٌ بذلك الفكر، حكماً، إلى مأزقٍ إنِ استفحل أمْرها كثيراً وبلغت درجةً عليا من التّأزُّم. ولسنا نغلو في القول والأحكام حين نذهب إلى أنّ الفكر العربيّ يشهد، فعلاً، على مأزقٍ في علاقته بمراجعه ويُستأنف التّعبير عن معضلةٍ أزْمَنَتْ فيه طويلاً هي: مسألة المرجع.

أشدُّ تمظهرات ذلك المأزق فيه هو انشداده إلى مرجعيْن رئيسيْن ينقسم على حدودهما إلى فريقين؛ بل إلى مجتمعيْن ثقافيّين نقيضيْن لا جامع بينهما يجمع! يتعلّق الأمر، في هذا، من وجهٍ أوّل، بمرجعيّةٍ فكريّة يحتلّ فيها الموروث موقع القطب وتدورُ مقالات المنْشدّين إليها بخيط الولاءِ على فكرة الأصالة وما اشتُقَّ منها مثل الهويّة والذّات الحضاريّة وما شاكل؛ كما يتعلّق الأمرُ فيه، من وجهٍ ثانٍ، بمرجعيّة فكريّة حديثة يحتلّ فيها هاجس الحداثة موقع القطب وتدور مقالات المعتصِمين بها على فكرة التّقدُّم وما اقترن بها، وتَفرع منها، من أفكار مثل الكونيّة والحداثة وما في معناها. لا يعترف أيُّ فريقٍ منهما إلا بالمرجع الذي هو مشدودٌ إليه. هكذا يُغلق الاثنان على نفسيهما داخل منظومتيهما المرجعيّتين؛ لا يقرآن العالمَ إلا من خلالهما، ولا يَعِيَان الأشياءَ إلا من داخل مفاهيمهما وكأنّهما وحدهما سبيل الوعي إلى الإدراك الصّحيح للأشياء والظّواهر. والغالبُ على من يفكرون من داخل النّظام المعرفيّ لكلٍّ من تيْنِك المرجعيّتين عدمُ الانتباه إلى أنّ الأمر فيهما يتعلّق بمرجعيّتين جاهزتيْن سلفاً: أنتجهما إما أقدمون انفصلنا عنهم بالزّمن، أو معاصرون من خارج دوائرنا الاجتماعيّة والثّقافيّة. وهذا يعني، في ما يعنيه، أنّنا لسنا شركاء في أيٍّ منهما، بل نحن - بالأحرى - عالة عليهما معاً.

في حمْأة الانشداد التّقابليّ إلى هذين المرجعيْن الفكريّيْن والوقوعِ قِيدَ سلطانهما على الوعي العربيّ، كانت تيّارات هذا الوعي تبْتعد، تدريجاً، عن السّبيل التي تأخذها إلى إحسان أدوارها الفكريّة والثّقافيّة لتنغمس، بدلاً من ذلك، في ممارسةِ طقسٍ ليس فيه من المعرفة، ولا من الإنتاج والإبداع شيء هو: تكرار المَقول واجترارُه: ما قاله السّلف وما قاله الغربيّون؛ وهؤلاء وأولئك عنّا بمَبْعد!

لا مناص، إذن، من الخروج من هذا النّفق الخانق الذي يؤدّي المأزقُ الوعيَ العربيّ إليه محشوراً مأسوراً. تلك وحدها السّبيل لكي يعيد الفكرُ بناءَ نفسه بما هو فكرٌ مطابِق وفعّال ومنتج؛ يُبْدِع ولا يتَّبع، يعطي ولا يتسوّل، يُنتج ولا يستهلك. وعندي أنّ هذا الخروج من النّفق الكالح ذاك ممّا ينبغي أن يُصَار إليه ويُصْطَنع انطلاقاً من اعتماد قاعدتين والعمل بما تقضيان به:

*أولاهما؛ أن نسلِّم، ابتداءً، بأنّ المرجعَ الأوّل لكلّ فكرٍ، المرجعُ الأعلى سلطاناً والأَبْدَهُ في أيّ وعي، هو الواقع لا النّصّ؛ وأعني بالواقع جملةَ الحاجات والمصالح والأوضاع والضّرورات الموضوعيّة التي تفرض نفسَها على مجتمعٍ مّا، أمّةٍ مّا، فكْرٍ مّا وتُملي الحاجةَ إلى إجابتها فكريّاً. الواقعُ لا الفكرُ هو المرجع، وهو العمدةُ لا ما أجاب به السّابقون أو المعاصرون الآخرون عن معضلات واقعهم هُم. الفكر، على الحقيقة، وعيٌ مطابِق؛ نجاعتُه في أن يكون موضوعيّاً؛ أي في أن يعْرف موضوعه على وجْهٍ من الدّقّة. قد يقال إنّ علاقة الفكر بالواقع متوسَّطة لا مباشرة، يتوسّطها الفكر (المعارف، المفاهيم، المناهج...)، وهذه معطاةٌ سلفاً: أنتجها الأقدمون والمعاصرون وهذا صحيحٌ لا مِرْية فيه وبالتّالي، فهو يُظْهرنا على حاجةٍ مّا إلى علاقةٍ مّا بالمرجعين المشار إليهما، الأمر الذي يأخذنا إلى القاعدة الثانية.

*ثانيتُهما؛ أن نبنيَ علاقتنا بكلِّ مرجعٍ من المرجعين على أساسيْن اثنين متلازميْن: على أساس نقد كلِّ مرجعٍ وعدم التّعامل معه وكأنّه حُرْم (مقدّس) متعالٍ عن كلّ سؤال. وهذه طريقة للتّحرّر من مفعوليّة المرجع السّحريّة في مَن يستند إليه، ولكنّها - أيضاً- طريقة لجعْل تلك المسافة النّقديّة مع المرجعين مساحةً لتدريب الوعي على التّحرُّر من الإيمانيّة المطلقة ومن كلّ نزعةٍ انبهاريّة. والأساس الثّاني هو الامتياح من أيّ مرجعٍ انطلاقاً ممّا تقضي به حاجاتُ الواقع وتَحْمل عليه، أي على أساس أن يكون رائزُ العلاقةِ بأيّ مرجع هو ما تفرضه المصالح: هذه التي ينبغي أن تُسَخَّر لها مكتسبات الغرب والماضي معاً إنْ أَسْعَفَتْها ووُجِدَ فيها الجواب الشّافي عنها.

هي، إذن، دعوةٌ إلى السّعي إلى اجتراح مرجعيّة جديدة للفكر العربيّ؛ مرجعيّة يقع تصنيعُها من مركَّبٍ من العناصر تكون منها بمثابة الموادّ الخام من المنتوج: مكتسبات الغرب والتّراث العربيّ الإسلاميّ والواقع التّاريخيّ والمجتمعيّ الموضوعيّ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3u8b8asv

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"