كوريا الشمالية ضمن الخطوط الحمراء

03:33 صباحا
قراءة 5 دقائق


د. أحمد قنديل *


في عودة إلى سياسة حافة الهاوية من جديد، أجرت كوريا الشمالية، تحت الإشراف المباشر لرئيسها كيم جونج أون، ثلاث تجارب للصواريخ الباليستية قصيرة المدى في بحر اليابان في الأسبوع الأخير من شهر يوليو الماضي، تعبيراً عن إحباطها إزاء المناورات العسكرية المخطط لها بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، والمقررة خلال شهر أغسطس الجاري، تحت اسم مناورات «دونج مينج».
قالت بيونج يانج إن تجاربها الصاروخية صُممت من أجل إرسال «تحذير رسمي» إلى كوريا الجنوبية لقيامها بشراء مقاتلات أمريكية عالية التقنية (مقاتلات الشبح من طراز F-35A
) وباستئناف مناوراتها العسكرية المشتركة مع واشنطن، التي تنظر إليها باعتبارها «بروفة غزو» من أجل الإطاحة بالنظام الحاكم في كوريا الشمالية. وطالبت بيونج يانج كلاً من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بإلغاء هذه المناورات قائلة إنها ستنتهك تعهد الرئيس الأمريكي ترامب لنظيره الكوري الشمالي، ومحذرة من إمكانية وقف تجميدها إجراء التجارب النووية والصاروخية بعيدة المدى، والذي كثيراً ما كان يستخدمه الرئيس ترامب كدليل على نجاح تعامل مع كوريا الشمالية.
وكان الرئيس الأمريكي قد قلل، يوم الجمعة الماضي، من أهمية التجارب الصاروخية التي أجرتها بيونج يانج، قائلاً إنه لا يشعر بالقلق تجاهها، ووصفها بأنها «صواريخ قصيرة المدى» و«عادية جداً». وأشار ترامب إلى أن هذه التجارب لم تخرق أي اتفاق مع الرئيس كيم، وأنه متأكد من أن الزعيم الكوري الشمالي لا يريد أن «يخيب ظنه»، في إشارة إلى تعهد الرئيس كيم بعدم إجراء أية تجارب نووية أو صاروخية بعيدة المدى منذ عام 2017.

إدانة أوروبية

تقليل الرئيس الأمريكي من خطورة التجارب الصاروخية الأخيرة لكوريا الشمالية، اصطدم مع مواقف الدول الأوروبية، التي ترى أن هذه التجارب تخضع لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعام 2006، والذي يطالب كوريا الشمالية بتعليق جميع الأنشطة المتعلقة ببرنامج الصواريخ الباليستية. ولذلك دان الأعضاء الأوروبيون في مجلس الأمن الدولي الجولة الأخيرة من التجارب الصاروخية الكورية الشمالية. وحضت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، كوريا الشمالية على «اتخاذ خطوات ملموسة نحو نزع السلاح النووي بشكل كامل ويمكن التحقق منه ولا رجعة فيه، والدخول في مفاوضات ذات مغزى مع الولايات المتحدة، على النحو الذي تم التوافق عليه بين الرئيس ترامب والزعيم كيم جونج أون في 30 يونيو 2018». وقالت الدول الأوروبية بمجلس الأمن في بيان مشترك إن «العقوبات الدولية يجب أن تظلّ سارية، وأن تُنفّذ بالكامل حتى يتمّ تفكيك برامج الصواريخ النوويّة والباليستية لكوريا الشمالية. من الضروري أن يُظهر مجلس الأمن وحده فيما يتعلّق باحترام قراراته».
ورداً على ذلك، انتقدت وزارة الخارجية لكوريا الشمالية بيان الدول الثلاث مشيرة إلى أن بيونج يانج لم ولن تعترف أبداً بقرارات الأمم المتحدة التي تعتبرها «استفزازاً خطيراً». وقال المتحدث الرسمي للوزارة، إن بلاده لم توقع أبدًا أي «اتفاق قانوني ملزم» مع أي دولة لوقف تجاربها الصاروخية أو الحد منها، مشيراً إلى أن تعليق كوريا الشمالية لتجاربها النووية ولتجارب الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والذي أعلنه الرئيس كيم في العام الماضي كان يستند إلى «النوايا الحسنة»، بعد انطلاق التواصل الدبلوماسي مع واشنطن. ومن ناحية أخرى، اتهمت كوريا الشمالية، في بيان رسمي، مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ب «التشهير دون أساس» لقيامها بتطوير «الأسلحة التقليدية» «بينما يغض النظر عن المناورات العسكرية التي تجريها كوريا الجنوبية وعن نقل الأسلحة الهجومية المتطورة إليها».
وكانت واشنطن وسيؤول قد خفضتا بداية العام الجاري، نطاق المناورات العسكرية المشتركة إلى حد كبير تمشياً مع رغبة الرئيس ترامب في تعزيز المسار الدبلوماسي القائم مع بيونج يانج. إلا أن تعثر المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، منذ فشل قمة فيتنام في فبراير الماضي بين الرئيس الأمريكي ونظيره الكوري الشمالي، يبدو أنه دفع الجانبين إلى «استعراض العضلات العسكرية» من جديد من أجل الضغط لإنعاش المفاوضات المتعثرة وإعادتها لمسارها من جديد.

حسابات ترامب

صحيح أن التجارب الصاروخية الأخيرة من جانب بيونج يانج لا ترقى إلى مستوى الاستفزاز، من وجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية، لأنها لم تتجاوز «الخط الأحمر»، المتمثل في إجراء تجارب صواريخ طويلة المدى تستطيع الوصول إلى الولايات المتحدة، إلا أن هذه التجارب تعرض للخطر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهما اليابان وكوريا الجنوبية، فضلاً عن عشرات الآلاف من القوات الأمريكية المتمركزين هناك. كما أن هذه التجارب تعكس أيضاً، وبشكل واضح، إصرار بيونج يانج على تحدي واشنطن، خاصة أنها تأتي بعد فترة وجيزة للغاية من نشر وسائل إعلام كورية شمالية صوراً لنوع جديد من الغواصات قالت إنها ستبدأ نشرها قريباً، وإنها قادرة على حمل وإطلاق صواريخ نووية (SLBM
). كما أن هذه التجارب تشكل أيضاً ضربة قوية لإدارة الرئيس ترامب، وهو يتطلع لإعادة انتخابه في عام 2020، خاصة أنه تباهى في السابق بأهمية وقف التجارب النووية والصاروخية لكوريا الشمالية واعتبرها انتصاراً لسياساته الخارجية.
لذلك، لم يكن غريباً أن تؤكد وكالة أنباء كوريا الشمالية الرسمية على أن السلام والتدريبات العسكرية «لا يتماشيان»، مشيرة إلى أن «التعليق الشامل والدائم للمناورات العسكرية المشتركة ضدّ كوريا الشمالية» هو «شرط مسبق» لتحسين العلاقات بين بيونج يانج من جهة وكل من واشنطن وسيؤول من جهة أخرى.
وبناء على ذلك، تعد العودة إلى استعراض العضلات العسكرية من جانب بيونج يانج، ممثلاً في التجارب الصاروخية الأخيرة، ومن جانب واشنطن وسيؤول، ممثلاً في إجراء المناورات العسكرية المشتركة بينهما خلال الشهر الجاري، «ضربة قوية» للانفراج التاريخي الذي شهدته شبه الجزيرة الكورية خلال عام 2018، وبعد انعقاد ثلاث قمم بين الرئيس الأمريكي والزعيم الكوري الشمالي. وعلى الأرجح سوف يستمر استعراض هذه العضلات في الفترة المقبلة، طالما لم يتم استئناف المحادثات النووية على أرض الواقع، خاصة مع تأكيد كوريا الشمالية على أنها سوف تعيد النظر في مصير دبلوماسيتها مع واشنطن، وكذلك في إمكانية مواصلة تجاربها النووية والصاروخية طويلة المدى إذا تم إجراء التدريبات العسكرية الأمريكية الكورية الجنوبية المخطط لها في شهر أغسطس الجاري. ومما يعزز من هذا التقدير أن الزعيم الكوري الشمالي سيكون جريئاً في إبراز عضلاته العسكرية، والاستمرار في سياسة حافة الهاوية، للضغط بقوة أكبر على الرئيس ترامب، كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة. فإذا ما تحقق ذلك بالفعل، فربما يشهد العالم قريبا تجرّؤ نظام كيم على اختبار صاروخ باليستي عابر للقارات، يمكن أن يصل إلى الأراضي الأمريكية.. فهل يحدث ذلك فعلاً؟

* رئيس برنامج دراسات الطاقة وخبير العلاقات الدولية مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"