لا مكان للتشاؤم

02:51 صباحا
قراءة 6 دقائق
يوسف أبولوز


(1)


هل يمكن لقصيدة صغيرة من شعر الهايكو الياباني أو الصيني أو حتى العربي، أن تسخر من فيروس، وتوبخ المرض وتنشر الأمل والطمأنينة وثقافة الحياة؟ البعض سيعتبر هذا المدخل شعرياً تماماً؛ بل غير واقعي بالمرة، فنحن في مستطيل مرعب اسمه كورونا، هذا المستطيل الذي يرمز إلى الحجر والعزل، يمكن أن يُملأ بباقات الورد، إذا أراد الإنسان أن يواجه زمن الموت الدراج المتنقل ببطء وبسرعة أحياناً، بثقافة الحياة.
طالما كانت الثقافات الحية عبر التاريخ وسيلة من وسائل شعوب كثيرة في العالم عانت ويلات الحروب، والاستغلال والاستعمار والحروب الأهلية، والانقسام السياسي والعرقي والثقافي، فكان الأدب تحديداً بوصفه العمود الفقري لأية ثقافة حية في مواجهة كل هذه الغوائل والجوائح والمصائب، وكذلك تنهض الثقافات المتفائلة وتقف قوية صلبة متماسكة في مواجهة جوائح أخرى، مثل الأوبئة الكونية التي تغلق عادة الحدود السياسية بين الشعوب، ولكن في الوقت نفسه ويا للمفارقة، فإن مثل هذه الجوائح تفتح الحدود الرمزية والمجازية بين الشعوب، فيصبح الإنسان أخاً حقيقياً للإنسان على الرغم من كل الفوارق التي تصنعها عادة الأيديولوجيات النفعية المحكومة بمصالح أنانية.
اليوم لا تتوحد جهود العالم الصحية والطبية والسياسية الإيجابية لمحاربة فيروس غير مرئي؛ بل أيضاً تتوحد الثقافات لمحاربة هذا الفيروس الذي يرمز للفناء والقضاء على الجنس البشري.
وفي المقابل، فإن جميع رمزيات الثقافات الإنسانية النبيلة تحيل إلى فكرة تكاد تكون واحدة، وهي حماية الوضع البشري من الانهيار المتدرج بسبب كائن مجهري .
لنذهب إذاً في إطار هذه المواجهة إلى شعر الحياة، إلى شعر الأمل والثقة بأخوة البشرية؛ لنذهب إلى شعر الحب وإلى شعر الطبيعة البكرية قبل أن تعشش فيها الفيروسات والكائنات المجهرية. كائنات سيارة في الهواء، لاصقة على الأسطح الحديدية والنايلونية والزجاجية؛ نعم كائنات قاتلة منزوية في الثقوب وعلى وجه الأزرار وعلى أجسام المفاتيح والأبواب.
على نحو ما؛ كورونا لص يماثل تماماً لصوصية بعض البشر أنفسهم، فمثلما هناك فيروس جرثومي، هناك فيروس بشري على شكل مجرم قاتل، أو «حرامي»، أو موظف فاسد نهاب لأموال الناس.
يماثل الفيروس البشري الذي يأتي على شكل جنرال استعماري، أو طاغية مبيد لشعبه وتاريخ بلاده، كما يأتي الفيروس البشري على شكل منظر للتوسع والهيمنة والسيطرة، ويأتي هذا الفيروس البشري على شكل عالم عبقري في تصنيع السلاح النووي والجرثومي والكيماوي، أليس هؤلاء معاً فيروسات كورونية أو كوليرية أو جدرية أو جذامية.. إلى آخره.
أقول تتماثل هذه الأشكال الفيروسية البشرية تماماً مع الأشكال الفيروسية الجرثومية المجهرية، الفرق فقط هو أن الكائن الجرثومي المجهري لا يرى بالعين المجردة، ويحتاج إلى فحص ومختبر، في حين أن الكائن الجرثومي البشري مرئي تماماً، واضح تماماً، يسير معنا في الشوارع، ويشرب القهوة في المقهى، ويأكل في المطعم؛ أي يمارس حياته الطبيعية اليومية بكل فظاظة وإعلان. يعود هذا الكائن الجرثومي البشري المرئي بالعين المجردة إلى بيته في المساء. يطبع قبلة حنونة على جبين زوجته، ويلاعب أطفاله، ثم يخلع مسدسه ويضعه بهدوء على الكنبة المجاورة لسريره.. وينام.
كورونا لا يفعل كل ذلك، إنه آت من برزخ آخر. ومن تكوين حيوي آخر.. فهل تراقب الثقافات كل ذلك؟
نعم الثقافات الكبرى الحيوية مثل مختبرات الكيمياء والفيزياء تشخص، وتفحص وتعالج. علاج هذه الثقافات يكمن في أدب الحياة؛ أدب التفاؤل والإنسانيات والجماليات، فهل توجد ثقافات متفائلة وأخرى متشائمة؟.
اترك الفلسفة، واترك فلاسفة التشاؤم والموت والعبث والعدم واذهب، كما قلت لك قبل قليل إلى شعر الحياة الذي هو عصب ثقافات التفاؤل.


(2)


الفكر والفلسفة، ربما هما المادتان الأكثر قدرة على توصيف ظاهرة ما؛ اجتماعية سياسية أو ثقافية كارثية وجودية، أو تربوية نفسية إلى آخره. هما المادتان الأكثر من الرواية والشعر توصيفاً لهذه الظواهر، ذلك أن الشعر في جوهره الفني والإبداعي هو مادة غنائية، وعندما يشعر الإنسان بأي وحشة مريرة جراء عزلة أو وحدة أو منفى أو محنة ما؛ مرضية أو غير ذلك، تراه يغني كي يسلي نفسه ويواسيها. الإنسان العادي يقوم من دون أن يدري بدور الشاعر، ولكن للإشارة فقط، و«الغنائية» هي مصطلح شعري يقصد به تخلص الشاعر من محمولات بلاغية تقليدية في القصيدة، وليس المقصود بها الغناء الذي نعرفه في الأفراح والليالي الملاح، ومع ذلك يغني الإنسان لأنه وحيد، ولأنه حزين، ولأنه مريض أحياناً.
هكذا يغني، وعليه أن يغني لأنه يتمسك بالحياة رغماً عنه، ويكره أن يموت هكذا مجاناً بسبب جرثوم فيروسي، أو بسبب جرثوم بشري أو آدمي.
بدأت بالتساؤل عما إذا كان بمقدور قصيدة هايكو صغيرة، أن تنسينا جرثومة أو فيروساً مصنعاً هجيناً أو فيروساً غير معروف «الأبوين»، إن أقسى ما يمكن أن نصف به كورونا هو أنه «ابن حرام»، والوصف ينطبق بقسوة أكبر على من صنعه إذا كان هناك من صنعه، وفي كل الأحوال يقف الشعر تحت الشمس، الشعر لا يتخفى ولا يلبد في الثقوب، ولا يكون خلايا نائمة أو خلايا مستيقظة؛ خلايا الشعر الوحيدة هي تلك التي تعمل عليها ملكة النحل، أو أن الشعر هو تلك الشرانق الناعمة الحريرية التي تصنعها الفراشات.. يقول الشاعر الياباني هوسومي آياكو، من شعر الهايكو:
فوق حجر
على طرف المياه
تتنفس فراشة سوداء.
أما الشاعر سايتوو سانكي، فهو مشغول بصباغة بطن قاربه بالأحمر القرمزي.. «ما امتع أن نصبغ بطن القارب بالأحمر القرمزي»، هنا لا مكان للتعقيد، والتشاؤم والكرب، كل شيء صغير وخفيف. الحياة صغيرة وخفيفة وجميلة.. سايتوو سانكي نفسه يقول: «تحت المطر، طارت القبرة مرتجفة، نحو السماء». أما يوسا بوسون شاعر الهايكو الآخر، فهو طفل بكل معنى البراءة عندما يقول:
«يا للسعادة
بعبور النهر أيام الصيف
ونعلاي بين يدي».
في الطبيعة أيضاً ثمة موسيقى تصنعها حشرات طيارة صغيرة «الزيزان»، تعيش هذه الحشرات المغنية في حقول القمح والشعير في الصيف، لا تكف عن الغناء؛ حشرات غير مؤذية.. لا تعرف «الجرثمة» ولا تعرف «الفيرسة». تغني تماماً مثل البشر لأنها وحيدة، وربما لأنها حزينة.. يقول شاعر الهايكو آوانو سييهو:
«منذ يومين أو ثلاثة
تعالت من جديد
أصوات الزيزان».


(3)


أجبرت كورونا، أو أجبر كورونا، فلا فرق بالمناسبة بين جنس وجنس آخر في سلالات الفيروس أو الجرثوم؛ مذكر أو مؤنث لا فرق، المهم مرة ثانية الغناء، أجبر سكان باريس ومدريد على البقاء في بيوتهم، ولكن لأن مثل هذه الشعوب هي شعوب الهواء الطلق ومقاهي الرصيف، فقد أخذوا يغنون ويرقصون من شرفات وأسطح ونوافذ بيوتهم. تألف بين الناس ما يشبه التضامن الاجتماعي، والرفقة الإنسانية عن بُعد، وهي ذاتها الرفقة التي ربما لم تكن موجودة قبل ظهور الوباء،
بعض هؤلاء المتضامنين ربما راحوا إلى شعراء الحب.
في تاريخهم الثقافي، ولعل جاك بريفير شاعر المطر الباريسي الناعم، هو أحد شعراء الحب الذين يتعلق بهم الفرنسيون اليوم.
في قصيدة لجاك بريفير بعنوان «الباقة» من ترجمة د. خليل الموسى يقول:
«ماذا تفعلين هنا أيتها الطفلة.. بهذه الأزاهير المقطوفة قبل قليل؟
ماذا تفعلين هنا أيتها الصبية
بهذه الأزاهير الجافة؟
ماذا تفعلين هنا أيتها السيدة الحسناء
بهذه الأزاهير التي تذبل؟
ماذا تفعلين هنا أيتها العجوز؟
بهذه الأزاهير التي تموت؟
... إنني أنتظر المنتصر.
أما في إسبانيا، فلا أجمل من أن نذهب إلى فدريكو جارثيا لوركا، شاعر الزيتون الأندلسي الأخضر، والغجر الصاعدين في الفجر إلى الجبال. يقول لوركا من ترجمة عدي الحريش:
«في الصباح الأخضر أردت أن أكون قلباً.. قلباً
وفي المساء اليانع أردت أن أكون عندليباً.. عندليباً
يا روح.. كوني بلون البرتقال..
يا روح.. كوني بلون الحب
في الصباح المفعم أردت أن أكون أنا كالقلب».
أما الأمريكي والت ويتمان، فهو شبيه الأرض، كما لو أن في قصيدته هذه شكلاً من أشكال النبوءة، ولكنه في كل أحواله يبقى شاعر الحياة.. شاعر الأرض التي هي شبيهته بكل ما فيها من بشر آدميين وليسوا جرثوميين. يقول في قصيدة له بعنوان «أيتها الأرض يا شبيهتي»:
«أيتها الأرض يا شبيهتي
رغم أنك تبدين جامدة، شاسعة وكروية،
فإنني أشك الآن في أن ذلك ليس كل شيء
أشك في أن هناك شيئاً ما وحشياً فيك مؤهلاً للانفجار قدماً؟».
هل ذلك الشيء الوحشي المؤهل للانفجار في الأرض هو كورونا؟. لا بالطبع، فالتوحش يصنعه الجلاوزة والمجرمون والاستبداديون، وفي هذه القصيدة ل«والت ويتمان»، إنما ننظر إلى النصف الثاني من كأس الماء؛ ننظر إلى النصف الممتلئ وليس الفارغ؛ ننظر إلى جملة محمود درويش الصافية المتحدية المتفائلة حين يقول:
«قتلتك يا موتُ الفنونُ جميعها».


العمود الفقري


الفن الإنساني العظيم الذي أنتجته البشرية من شعر وموسيقى ومسرح، وغناء ورواية، هو العمود الفقري لثقافات التفاؤل العصية دائماً على الهزيمة أمام الحروب المرئية والحروب غير المرئية.
الفن هو حارس الحياة في أبسط مشاهدها حتى لو كانت مجرد مقهى وشاعر يشرب قهوته الأولى في الصباح.. هذا شكل من أشكال الفن الذي يقتل الموت..
يقول محمود درويش في «أثر الفراشة»:
«في حانوت خبز، على ناصية شارع باريسي ضيق.. احتسي قهوتي الأولى. صباحاً تختلط رائحة الخبز برائحة القهوة. وتوقظان فيّ شهية على حياة طازجة.. حياة مبتدئة، وعلى سلام طوعي مع الأشياء الصغيرة، ومع حمامات تُؤثر المشي بين المارة والسيارات على الطيران..».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"