لكل وطن حكاية مع الكتاب

01:38 صباحا
قراءة 7 دقائق
محمد الأسعد

هل الكتاب في خطر؟ خطر أن يموت كما يشيع بعضهم، خطر أن يحل محله الوسيط الرقمي كما يتوقع مدمنو وسائل الاتصال الحديثة؟ خطر أن ينصرف عنه الناس إلى وسائط معرفة ومتع أخرى كما يقال في المنتديات العربية؟ خطر أن تصبح ملايين الكتب مواد متحفية تذكر بأناس غابرين مثلما تذكر الفؤوس الحجرية بأناس العصر الحجري كما يعتقد المغرمون بالمتحجرات؟ وكيف لمن يفكر ويكتب ويؤلف أن يتعايش مع واقع يتجه نحو إلغاء جدوى عمله، بل ووجوده، ويضع مصير ما يكتب في مهب الريح، ويقلب الصفحة ليأتي بذوات بلا ذاكرة لا تقرأ، فضلاً عن أن تكتب، زادها الصور ولا شيء سوى الصور، سواء كانت صوراً تمثيلية لا تمت إلى أي واقع بصلة، وهو الأغلب، أو صوراً تعكس بعضها بعضاً كما المرايا المتقابلة، فتجعلنا نعيش، ونتصرف في عالم افتراضي نتوهم أنه عالمنا الحقيقي؟
إذا بدأتُ بمقولة موت الكتاب، أجد بين يدي مقالة متفائلة، ولا بأس أن نبدأ بالتفاؤل، للأمريكية ليسا لوكاس المديرة التنفيذية لمؤسسة الكتاب الوطني، نشرتها في عدد مجلة التايم الخاص بالتفاؤل (7 فبراير 2019)، كان عنوان المقال السهل الممتنع «توقفوا عن الحديث عن موت الكتاب؛ إنه حيٌّ أكثر مما كان في أي وقت مضى»، ولدى الكاتبة أسبابها بالطبع، والتي تتعلق بالثقافة الأمريكية في المقام الأول، من ذلك أن عدد محلات بيع الكتب يرتفع على الرغم من هيمنة البيع عن طريق شبكة الإنترنت، ويتزايد عدد أعضاء جمعية باعة الكتب الأمريكية للسنة التاسعة في عام 2018، ومنذ عام 2013 فصاعداً ارتفعت نسبة مبيعات الكتب الورقية، وتضيف «بالطبع نحن نعرف أنه ليس جميع الناس يقرأون، ولسنا بحاجة إلى استطلاعات رأي لتقول لنا هذا، ولكننا بحاجة إلى أن نعرف من هم الذين يقرأون، ولماذا، وكيف نشجعهم على المزيد من القراءة، وبمتعة أكبر، ونحن بحاجة إلى أن نعرف من هم الذين تُركوا خارج حديث الكتب، ونرحب بدخولهم بأذرع مفتوحة. وهكذا فإن عمل أناس من أمثالي سيكثر من عدد الحاضرين في هذه الحفلة، ويؤكد أن الكتب تظل موضع حاجة ثقافتنا دائماً».
وعن عملها وعمل أمثالها تؤكد أنه، حسب تسميتها، «بناءُ قرّاء». ومع أن بعضهم يعتبر هذا العمل بمثابة صعود منحدر جبلي، إلا أنها تقوم به يومياً، لأن ما يجعل المتعة بكتاب جيد أعمق هو أنه لكل الناس ولكل مكان وزمان.

حياة أو موت

إذاً، هي قضية حياة أو موت الكتاب في إحدى الثقافات الغربية كما تلخصها هذه المقالة. ولكن هناك وجه آخر من وجوه حديث الكتاب، ذلك هو الخشية من تراجع صناعة الكتاب الورقي لمصلحة هيمنة الكتاب الإلكتروني. وهذه الخشية هي موضع استطلاعات في مختلف الأوطان، بما فيها الوطن العربي. أي ليس موت الكتاب بذاته تحديداً هو مصدر الخشية، بل تحوّله وتقديمه على شكل الإلكتروني (رقمي كما يقال) نتيجة للتطور التقني الذي لا يتوقف عن إزاحة المألوف، سواء كان فكرة أو أداة أو وسيلة.
ونظرة سريعة إلى هذا الوجه تشير إلى أن التوقعات التي نشرها استطلاع لموقع إلكتروني دنماركي متخصص بالنشر الإلكتروني قبل ست سنوات لم تكن مصيبة. قيل آنذاك: إن هذا الاستطلاع الذي شارك فيه 40 ألف شخص من 13 بلداً، أظهر أن 75% منهم يتوقعون أن يقرأوا كتباً إلكترونية، وتوقع نصفهم أن قراءاتهم مع عام 2015 ستكون إلكترونية كلياً. ولكن أثبتت السنوات اللاحقة أن مبيعات هذا النوع من الكتب لم تتجاوز حاجز 50%، وفي بعض الدول الأوروبية لم تتجاوز نسبة الإقبال على الكتاب الإلكتروني 20%. وهزمت الأيام توقعات هزيمة الكتاب الورقي، وظلت تهزمها، وظل الاهتمام بالكتاب الإلكتروني بطيئاً.
وفي استطلاع صحافي لآراء بعض الكتاب العرب حول ما يقال عن موت الكتاب الورقي، يرى بعضهم أن العكس هو ما يحدث، ويستشهد بافتتاح موقع أجنبي لبيع الكتب الورقية في شبكة الإنترنت. ويقول آخر، جارياً في المجرى نفسه «لا لن يموت، ولو كان هذا صحيحاً لشهدنا موته في الغرب المتقدم علينا إلكترونياً». ولا نفتقر في المناخ العربي إلى من يقول: إن الكتاب الورقي يمنحك إحساساً خاصاً تفتقده عند قراءة الكتاب الإلكتروني. ما هو هذا الإحساس؟ ولماذا؟ لا أحد يتقدم بجواب محدد. والأغلب بالطبع، ما يتجنبه أكثر أصحاب الرأي، وهو أن كل ما هو إلكتروني مرتبط بالقدرة على القراءة، وبإمكانية أن يقتني العرب على نطاق واسع الأجهزة الإلكترونية، أو تصل الكهرباء إلى بعض قراهم، وهي كثيرة على الأقل. والأهم؛ هل يمكن، حين الحديث عن الكتاب مهما كان نوعه، تجاهل نسب الأمية المتصاعدة في الوطن العربي؟ وهل يمكن تجاهل أن ملايين العرب يُشردون الآن ويبحثون عن مأوى لا عن كتاب ورقي أو إلكتروني؟ وهل من الطبيعي، حين يتحدث العربي عن الكتاب والقراءة وأجهزة ووسائط الاتصال الحديثة، أن يتجاهل خصوصية أوضاع أمته التي تختلف عن أوضاع الأمم الأوروبية، فيتحدث كأنه يعيش في كوكب واحد مثل هذه الأمم؟

أحاديث فارغة

يسود في عواصم الوطن العربي شعور بقرب نهاية الكتاب الورقي انسياقاً مع ما تنشره صحافتهم من توقعات عمادها الشائع في الصحافة الغربية، إلا أن السبب، كما يتضح من تذمر الناشرين من مشكلات النشر والتوزيع واستباحة الحقوق وتراجع أسواق الكتب، ومن تذمر الكتّاب من ضآلة ما يتاح لهم طباعته من أي كتاب ( لا يزيد عن 1000 نسخة في أفضل الأحوال)، ومن المناحة القائمة على تدني نسبة إنتاج الكتاب العربي مقارنة بالإنتاج العالمي، ليس تحوّل الكتاب إلى شكله الإلكتروني أو موته في شكله الورقي، بل هو غياب معناه، أو أفوله، بالتوازي مع غياب معنى حياتنا العربية وأفولها. وأستعير دلالة كلمة الغياب والأفول من محاضرة في مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام في أبوظبي ألقاها د. محمد لطفي اليوسفي (12 مايو 2012) تحدث فيها عن ظاهرة ملموسة بتعابير مختلفة في الشعر العربي الحديث، إلا أنه منحها التعبير الدقيق الدال لأول مرة، وصدم بها الكثير من الأسماع آنذاك
. ظاهرة أطلق عليها «أفول المعنى»، ويتمثل هذا في الشعر الحديث بالتعتيم والتعمية، وتلاشي الشعرية في خليط من الألغاز والأحاجي، ومحو ذاكرة الكلمات، ووهم الكلمة البكر. وينتج عن كل هذا، حسب اليوسفي، محو العلاقة المفترضة بين الوعي والواقع، والقطيعة بين الكتاب والجمهور. ولفت نظري قوله «إن غياب المعنى من النصوص من حولنا لا يقل خطراً عن غيابه من حياتنا». وهذا القول هو الذي يجعلني أقول وأنا أفكر بالكتاب ومصير الكتّاب: إن فكرة الغياب هذه بدلالتها لدى المحاضر، يمكن تعميمها على كل ما يتصل بحياتنا من أنشطة وفعاليات. وأخص بالذكر هنا الكتابة والكتاب.
يتعرض معنى الكتاب للغياب، ويكاد يأفل، سواء حضر ورقياً أو إلكترونياً، حين تمحى العلاقة المفترضة بين وعي الكاتب والواقع الذي يكتب فيه وله، ويصبح الكتاب نافلاً في نظر الإنسان العربي. هذه هي ما يمكن أن أسميها «أزمة الكتاب» العربي بالطبع، وليس أي كتاب في أي وطن آخر، فلكل وطن حكاية مع كتابه، كما يتضح من رفض الأمريكية ليسا لوكاس القول بموت الكتاب في أمريكا، وكما يتضح من سعي الأوروبيين إلى التساؤل عن مصير الكتاب الورقي لا موت الكتاب بحد ذاته، وسعي ناشريهم الإلكترونيين إلى ترويج الكتاب الرقمي.
في مثل هذه العوالم لا يغيب معنى الكتاب والكتابة، بل ينصرف التفكير إلى قضايا أعلى مستوى، إلى كيف نقرأ ولماذا وماذا نقرأ، كما سبق للناقد الأدبي والأستاذ الجامعي هارولد بلوم أن طرح في كتاب حمل عنوان «كيف تقرأ؟ ولماذا؟» (2000). ها هنا يكمن معنى الكتاب، ولا عبرة إن كان ورقياً أو إلكترونياً، أو عدداً من الألواح الطينية أو الرقوق أو جداراً مثل ذلك الذي نقش عليه المصريون القدماء كتاب «البعث والنشور» الذي يترجم خطأ باسم «كتاب الموتى». واللافت للنظر أن هذا البحث في معنى الكتابة والكتاب والقراءة اجتذب إلى ساحته عقل وهوى فيلسوف من وزن «ريتشارد رورتي»، وجعله يوصي قبل وفاته بالقراءة، والقراءة العميقة، وخاصة قراءة الأعمال الأدبية، وترك كتب الفلسفة والاقتصاد جانباً. لأن هذا هو السبيل الذي يعتقد أنه يؤدي إلى اكتشاف الإنسان لذاته وتعزيز وتنمية وتعميق استقلالية شخصيته.
ومن المفيد، ونحن نتناول كتابنا العربي من هذه الزاوية لا غير، أن نحدد ما نقصده بأفول معنى الكتاب في عدة نقاط. في المقدمة منها هذا الذي يركز عليه هارولد بلوم؛ المعنى الكامن في الكتاب الذي نقرؤه لنحقق استقلاليتنا الذهنية، وقدرتنا على صياغة أحكامنا وآرائنا النابعة منا، ويخص بالذكر كتب المخيلة الأدبية لا كتب التنظير والسجال أي كان موضوعها. وتفصيل هذا أن كتب المخيلة مثل الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة والشعر هي التي تجعلنا نتجول في الجغرافية الإنسانية والطبيعية، وتجعلنا نتفهم التعددية والاختلاف، أي أنها هي التي تمنحنا هويتنا الإنسانية. ولا يحقق هذا إلا الكتاب الذي يخلصنا من الرائج والمبتذل والمبذول من أفكار، أي الكتاب المحرّر، شأنه شأن أي فعالية محررة على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي. هل هذا الكتاب موجود؟ أم أننا نجده يأفل كلما تطلعنا حولنا؟.
ليست كتب المعميات والتضليل وحدها هي ما يجعل معنى الكتاب المحرِّر غائباً، مثل كتب الشعوذة وترويج الخرافات في عصر العلم. لا نعني بالغياب غياب الكتب التي تذكر بالماضي، بل الكتب التي تغيب الحاضر، أي التي تمحو من ذاكرة القارئ حاضره، وتحل محله حاضراً وهمياً.
معنى الكتاب إذاً، لا ينحصر في كونه محرِّراً من كل هذا، بل يتسع ليشمل معناه الوعد بأن يغيّرنا، ويعدّنا ويعدنا بالتغير، لا لنتجمد في زاوية أو بقعة أو زمن. الكتاب الذي تضعنا قراءته في سياق كل ما قرأنا من قبل، وتجعلنا نعيد تنظيم السياق مجدداً في كل مرة نلتقي فيها بأوضاع ووجوه جديدة.

البحث عن المعنى

لا يوجد أي معنى في المناقشات الدائرة حول غياب أو حضور الكتاب بصيغته الورقية، أو أفضلية الإلكتروني على الورقي، بل نجد المعنى كله في مناقشة كيف نقرأ ولماذا؟ باستعارة من الناقد هارولد بلوم أيضاً، مع إضافة «وماذا نقرأ؟» لتصبح قضية الكتاب قريبة منا ومن شواغلنا الثقافية. وفي ضوء كل ما ألمّ ويلمّ بوطننا العربي الكبير أليس الكتاب الذي يحررنا أنسب تعبير عن حاجتنا إلى الكتاب؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"