محامو الشيطان

12:25 مساء
قراءة دقيقتين

عندما تتفاقم أزمة الثقة بين الناس من جهة وبين الفرد وذاته من جهة أخرى تتحول الريبة إلى مناخ مفعم بالأكاسيد الخانقة وقد ينقطع الرفض والعصيان عن أسبابهما ليصبحا رد فعل مزمن يعبر عن غضب وتوتر لا حدود لهما.

إن محامي الشيطان ليس فقط من يتطوع للدفاع عن أي موقف لمجرد إدامة السجال، فهو إفراز متوقع لمجتمعات انعطبت بوصلتها وأصبحت كل البديهيات والمسلمات فيها عرضة للشك.

والفارق بين حراك اجتماعي وسياسي راشد وفاعل وذي استراتيجية محددة، وبين حراك عصبي هو فارق جوهري بامتياز، لأن الحراك الثاني قد يدفع الناس إلى الانتحار وهم لا يعلمون، لأن انسداد الأفق يجعل الفرد محاصراً وقد ينقض على أقرب شيء إليه وأحياناً ينقض على ذاته.

ومسؤولية النخب في هذا السياق لا تتوقف عند المواعظ وتداول المفاهيم المجردة. إنها في لحظات حرجة وحاسمة تتولى حراسة ما تبقى وتصون الوعي من الاستلاب الذي يتهدده، أما الأساليب والقنوات التي تلجأ إليها النخب فهي إما تقليدية ومتاحة في مجتمعات مدنية حققت قدراً من العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة، أو يصار إلى ابتكارها عبر مختلف وسائل الميديا، وحين يحكم التفكير الانفعالي النخب يكون الملح قد فسد، ولا رجاء في عودة البوصلة إلى وضعها السليم.

ما يحدث الآن في العالم العربي هو مزيج غريب بين نخبة مؤدلجة وتابعة وبالتالي فاقدة لدورها الريادي والتنويري ونخبة أخرى تعيش في أبراجها خارج مجال الجاذبيات كلها، وتذكرنا هذه النخبة بالجدل البيزنطي الشهير الذي يدور حول عدد الملائكة أو الشياطين على رأس الدبوس!

رغم أن رؤوس الدبابيس كلها تنغرز الآن في لحمنا، وقد تبلغ النخاع عبر مسامات العظم.

فأية مفارقة هذه التي تعزل المقدمات والأسباب عن النتائج؟ بحيث تقدم المضادات الحيوية للمصاب بمعزل عن أي تشخيص لمرضه أو للفيروس الذي يفتك به؟

إن الشيطان لا يحتاج إلى محامين الآن، وثمة من أزمة العدالة وهيمنة الفوضى ما يحتاج إلى قضاة العالم ومحاميه معاً، فالإنسان أصبح في مهب عواصف عاتية، تجرده من آدميته وتسلخ عنه هويته ثم تلقيه في اليم مكتوفاً وتقول له: إياك.. إياك ان تبتل بالماء! وقد تبدو الأزمات الطاحنة للبشر الآن اقتصادية أو سياسية أو من إفرازات الصراع الايديولوجي لكنها في حقيقتها أخلاقية، فالظلم لا يتوقع منه أن يغذي منظومة قيم أو ينتهي إلى سلام اجتماعي وأمن شامل.

ولا يمكن للعنف الرسمي والإرهاب المنظم الذي تمارسه دول لها نفوذ امبراطوري أن يستولد من الجهة الأخرى هدوءاً وتعايشاً سلمياً أو يدفع ضحاياه إلى التأقلم القسري مع عذاباتهم.

إن أحد أسباب انسداد الآفاق وتأزم القضايا في عالمنا هو تغطية الواقع بطلاء بلاغي معقد، فالجوع جوع ولا شيء آخر والاحتلال احتلال ولا يقبل أي تسمية مخففة والطغيان لا تحجببه القفازات الحريرية أو الخطاب المضلل.

منصور

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"