وطن الألوان

03:17 صباحا
قراءة 7 دقائق

** الشارقة: عثمان حسن

حضرت صورة الوطن في الفن التشكيلي الإماراتي منذ بدايات نشوء الحركة التشكيلية في الدولة، وقد برز هذا الحضور في المفردة واللون، وفي المنحوتة، وفي كثير من التفاصيل سواء كان ذلك من خلال الأسطورة، أو من خلال الفولكلور كالحياكة والتطريز، وكافة أشكال التراث كالحرف والصناعات التقليدية، وفي تفاصيل البيئة والمكان، وما يحتضنه المكان من مبان وتفاصيل كالأبواب والشبابيك، كما حضر من خلال الكلمة المعبرة والقصيدة وغيرها.
في القراءة الأولى لانعكاسات الوطن في الحالة التشكيلية في الإمارات، يمكن التأكيد على أن هذا الحضور كان نابعاً من تلك المعاني التي يجسدها الوطن كقيمة وانتماء وأصالة وهوية، من هنا، فإنّ وجوده كان نابعاً من تلك الأصالة التي تفيض بها ذكريات المكان والبيئة، فهو بالتالي حضور أقرب إلى النفس، مجسد في صور شتى من التفاصيل والذكريات، حيث تطوف روح وذاكرة الفنان، باحثة عن تلك الجذور في ماضيها العريق، تستمد من ثقافته وأثره طاقة إيجابية متفائلة.
ضمن هذا المسعى، فإن تجسيد الوطن، لم يكن حالة طارئة، أو مصطنعة عند الفنان الإماراتي، بل كان يجسد حالة أصيلة، ويعبر عن ثقافة غنية بالقيم والمبادئ، تربط الماضي بالحاضر نحو المستقبل المأمول، وهو الذي نجده ماثلاً في أعمال وتجارب الرواد الأوائل في الإمارات، سواء د. محمد يوسف، ود. نجاة مكي، وعبدالرحيم سالم، وعبد القادر الريس، وعبيد سرور، وكريمة الشوملي، ومحمد القصاب، ومنى الخاجة، وعبيد سرور، ومحمد مندي، وخالد الجلاف، وإبراهيم العوضي، وغيرهم الكثير.
ويمكن التأكيد هنا، على أن بدايات حضور الوطن في الفن التشكيلي الإماراتي، قد انطلقت من ثيمة البحر والصحراء، وفي تلك التعابير والألوان، التي جسدت البيئة، وفي المنحوتات التراثية، والتشكيلات التي قدمت تنوعاً لافتاً على مستوى التعبير الجمالي والبصري.
هنا، يمكن التأكيد مرة أخرى على أن مفردة الوطن ظلت راسخة في التشكيل الإماراتي مع تطور واستمرار هذه التجربة، ومع اختلاف وتبدل الصيغ والتعبيرات والدلالات الفنية، مع اللوحة المسندية، وحتى مع انتقال بعض ممارسي الفن التشكيلي، إلى فضاء الفنون المعاصرة كالمفاهيمية، حيث استخدامات الصور والتراكيب والمنحوتات والأشكال الهندسية، ودلالات وانعكاسات الضوء والظلال، ومع مختلف أشكال الحداثة الفنية التي نرى تفاعلاتها في المشهد التشكيلي والبصري الإماراتي وفي تجارب هؤلاء الفنانين من خلال المعرض السنوي لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية وفي مختلف المعارض الفنية في الدولة: في أبوظبي وفي دبي وفي الشارقة وغيرها.
ومن يتعمق في هذه التجربة البصرية في الإمارات، يكتشف أنها جسدت صورة الوطن في تجارب الشباب وخريجي الجامعات وفي مختلف المعارض التي تتنافس على تقديم الوطن ورموزه وقادته، وما صدر عنهم من أقوال ومبادرات وحكم ومأثورات وطنية خالدة، لا سيما أقوال مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وفي أقوال الحكام وأشعارهم.

البساطة وكسر الحواجز

جسد د. محمد يوسف الوطن من خلال منحوتات تراثية كثيرة، فاستخدم سعف النخيل في معظم أعماله، ومحمد يوسف كما يؤكد في كثير من حواراته يصر على استخدام المواد الطبيعية والبيئية المختلفة، وهو يؤمن بالتلقائية في الفن والبساطة، ومفهوم كسر الحواجز، وكثير من منحوتات د. محمد يوسف أنجزها من جذوع الأشجار والأوراق والأغصان والحبال، ومخلفات البيئة الإماراتية، وهذا الفهم الفني عند يوسف ينطلق من إيمانه بأهمية التراث، كمفردة وطنية يمكن للفنان المبدع أن يستنبط أبعادها وقيمها الجمالية والفنية الإنسانية.
في منحوتة «في المرأة والنخلة» على سبيل المثال، سعى د. محمد يوسف لإبراز قيمة المرأة، التي تتجذر في الواقع بهالة من الشموخ والرفعة، وهذا ما يتبعه في مجمل الأفكار التي يشتغل عليها، كما هو في «منحوتة البحر والصحراء2007» التي أنجزها د. محمد يوسف من مواد البيئة ذاتها كالرمل والعصي والأخشاب، فكان لون البحر حاضراً، في أحواله في الليل والنهار وفي تبدلاته في المد والجزر، وفي شتى الألوان التي حفلت بها المنحوتة، كما هو في باقي أعماله التي تشكل وحدة زخرفية ساحرة الجمال.
الدكتورة نجاة مكي، التي تعتبر من أبرز الفنانات في الساحة الخليجية والعربية، هي في مجمل أعمالها كانت مخلصة في تجسيد ثيمات مختلفة من التراث الإماراتي، ولأعمالها بريق خاص، وفهم فني مستوحى من قصص وحكايا الجدات، وأيضاً في توظيفها الساحر للتراث الشفاهي والمادي كعناصر الزينة كالحنة والزعفران والنيلة، وهذا الفهم عند د. مكي تجلى في صيغ ومفردات عدة كتوظيفها للأشكال الهندسية، وفي استخدامات الحرفة اليدوية «التلي» التي تبرز الألوان البرّاقة والتصميمات المطرزة الجذّابة، التي انتشرت في الإمارات عبر أجيالٍ مختلفة، وأيضاً في استخداماتها الفنية لثياب الزينة ومختلف أنواع المطرزات التراثية، توظيفاً جمالياً يؤكد على المرتكزات الأساسية التي تجسد حكاية الوطن في تجلياته الفريدة.
كان للتخصص الأكاديمي عند د. مكي، دوره في بلوغ اللوحة عندها أعلى مستويات الجمال البصري، فهي تخصصت في النحت البارز، وفي النقش على النقود المعدنية والمسكوكات.
ود. مكي عاشقة لتفاصيل البيئة، والمكان يكاد يكون بطلاً في كافة أعمالها، التي لا تبخل عليها بالخامات ومفردات التعبير، وهي من الفنانات القلائل اللواتي يعتبرن البيئة خزاناً ثرياً يلهم بكثير من الموضوعات الفنية، التي تظهر في أعمالها مكتنزة برموز وإشارات ودلالات وأطروحات غاية في الجمال، فتصبح اللوحة عندها نصاً بصرياً قائماً قابلاً للقراءة في أكثر من مستوى.
وفي معظم أعمال د. مكي، يفتن المشاهد بتلك الدلالات والمؤثرات التي تمتزج في كلية بصرية جمالية، تستلهم من خلالها المدن خاصة مدينتها دبي القديمة، وما حفلت به من أسواق ودكاكين قديمة، ناهيك عما حفلت به مشاهداتها اليومية من حِرف ومشغولات شعبية شكلت رؤيتها الجمالية لروح الفن، عبر تحولات اللوحة في التعبير والتجريد الحديث، ومختلف الأساليب والتأثيرات الفنية العربية والإسلامية.

بصمة متميزة

عبد الرحيم سالم، صاحب البصمة المتميزة في الاشتغال الفني، المفتون بالتراث والأسطورة، حيث الأسطورة بنت المكان الإماراتي، وحيث فاتنته «مهيرة» التي رصد وما يزال تحولاتها في الزمان والمكان، طارحاً من خلالها أسئلة جديدة، هذا الفضاء الرمزي والتجريدي، الذي يشتغل عليه عبد الرحيم سالم، يقع في منطقة وسطى بين التراث والحداثة.
وهو فضاء يقع بين البحر والشجرة ومختلف عناصر الطبيعة، وفي مسارات تحول الحكاية في دهاليز الزمن وتبدلات المكان، ويمكن قراءته من خلال تلك الثيمات اللونية المشغولة ببراعة تعبيراً وتجريداً، ورحلة بين الوعي واللاوعي، بين الحقيقة والخيال، إنها حكاية التراث ورحلته، وتلك الفكرة المدهشة التي تتخلل الحكاية فتنتشلها من الفكرة الواحدة، إلى أفق التجوال الفني والبصري.
يعكس عبد الرحيم سالم طفولة الأشياء، ليقيم في الحاضر مساراً لا ينتهي، بل يقرأ الحادثة، ويستمر في شق طريق الحكاية عبر تجليات الصورة، في تأمل المشهد الممتلئ عابر الزمان والمكان، هو عبد الرحيم سالم، أحد الأسماء التي جسدت الوطن، في ضوء فهم فني جريء وخاص، يحاول اكتشافه في غابة الرموز والألوان، وتلك الصورة التي تجسد ثراء العمق الإنساني، في الفكرة، والقول، وفيما يمكن أن يقال من خلال ذلك الفضاء البصري المفتوح على الدهشة والجمال.

فنان الضوء

عبد القادر الريس صانع الأبواب والنوافذ، الذي غاص في البيئة المحلية الإماراتية، وما فيها من رموز ودلالات، هو الفنان الذي يمتلك تقنية استثنائية في الرسم، الذي وصفه الفنان والناقد التشكيلي علي العبدان بأنه رائد الانطباعية في التشكيل المحلي الذي يعيش مع الأبواب والنوافذ والبراجيل والسفن الخشبية وعناصر العمارة التقليدية بخطوطها ومربعاتها الهندسية، وفي أعماله ثمة ذاكرة مكانية وتفاصيل للوطن.
تنقل الريس عبر الواقعية، والانطباعية والتجريدية، وتلك الطبيعة الصامتة في مناظر الأبواب والشبابيك وغيرها من السفن والمباني والبراجيل بأسلوب ساحر وحساسية فنية عالية، هو فنان أخلص للأرض والإنسان؛ فقدم الماضي بما فيه من صحراء ومنازل قديمة، وما في ذلك كله من جماليات، ومفردات، فتستحوذ عليه معالم الطبيعة ينقل من خلالها بهوية تراثية، وهو لا يكتفي بذلك بل رسم الجبال، والصحارى الرملية، والواحات، والنباتات، والبحر، والسماء، مازجاً بين التجريدية والتشخيصية، ومتنقلاً عبر الحروفيات والأشكال الهندسية بأسلوب يعبر عن هوية فنية عربية خالصة.

حالة وجدانية

من الفنانين الذين عكست أعمالهم صورة الوطن يذكر عبيد سرور صاحب الواقعية التعبيرية، التي وظفت البيئة التراثية في الإمارات، والمعمار الإماراتي القديم بما فيه من حصون، وأقواس، هو سارد التفاصيل الاجتماعية في البيئة الإماراتية، وراسم المشاهد التي ترسخ في الذاكرة.
في ذاكرة الفنانين الذين جسدوا الوطن في أعمالهم هناك الكثير من الأسماء التي يمكن التوقف عندها كالفنان محمد القصاب الذي كتب عنه الناقد محمود شاهين «يتبع أكثر من أسلوب تجريدي، وهو لم ينزع إلى النوع الانفعالي الحيوي من التجريدية التعبيرية، بل مازج بين التكوين، وخالف بين الألوان، ومال إلى شيء من التعبير».
ومحمد القصاب هو أحد رواد الحركة التشكيلية في الإمارات، بدأ في ستينات القرن الفائت وعمره لا يتجاوز التسع سنوات حين كان يعمل في مهنة النجارة وجمع الأخشاب، في دبي القديمة، كما درس في الأحمدية القديمة عام 1965، وانتقل إلى المدرسة الأحمدية الجديدة في الراس، فعشق الفن وهو صغير، ليصبح اسماً بارزاً في التشكيل الإماراتي.
وهناك الفنان إبراهيم العوضي، الذي استلهم حياة البحارة والغواصين، وهو فنان معروف بنزوعه إلى الواقعية في مجمل أعماله مازجاً بين التراث والتاريخ، حيث نكتشف في أعماله عوالم متنوعة من البحار والسفن والبراجيل، والتفاصيل المعمارية التراثية والمحلية، كما يهتم العوضي بالبيوت والأسوار والأبواب، وما فيها من تفاصيل معمارية وينقلها بحرفية فنية عالية.


سحر ودهشة


ظل الوطن حالة وجدانية تفيض بالسحر والدهشة والأسرار، على مقربة من تلك الأصوات التي تفيض بها الذاكرة، وعلى مقربة من تلك الأبواب والشبابيك والبيوت والفرجان، حيث براءة الطفولة والألوان المزركشة في العيد، وعلى مقربة من دكاكين العطارين، وأشرعة السفن الراسية وأناشيد المدارس التي تغني الوطن أنشودة شامخة على الجباه وفي القلوب والعيون وعلى الجباه وعلى مرمى أغنية وأهزوجة ساحرة وجديلة طفلة بريئة تحلم بالمستقبل نهاراً شعاعاً يرسم البسمة والأمل لغد أجمل وأبهى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"