عادي
فيلم يعتمد على المصادفات الملفقة

"يوميات مربية أطفال" دراسة اجتماعية بلغة السينما

01:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
يبدأ فيلم "يوميات مربية أطفال" بداية مثيرة، حين تستعرض الكاميرا بعض النماذج في متحف للتاريخ الطبيعي، بينما نسمع صوتا أنثويا رقيقا يشرح لنا ما نراه من تنويعات لتربية الأطفال في مجتمعات مختلفة، مثل أم وطفلها في إفريقيا، وعائلة من الأمازون، لينينتهي بنا هذا العرض في الحي الشرقي الثري من مدينة نيويورك، ليقول لنا التعليق إنه في هذا المجمع تنتهي مهمة الرجل عند حمل الزوجة وبعدها يفقد اهتمامه بالأسرة ليقضي وقته في لعب الجولف أو الانهماك في العمل، بينما ينحصر دور المرأة في الاهتمام بجسدها أو تشويهه من خلال عمليات التجميل أو طقوس "الريجيم"، وهكذا تصبح تربية الأطفال عبئا ملقى على المربيات اللاتي يعشن تجارب قاسية من المهانة والإذلال.تنبئ هذه البداية عن حس ساخر، يضع تحت المجهر تلك الشريحة المرفهة من المجتمع الأمريكي، خاصة أن الفيلم يعتمد على كتاب كتبته جيما ماكلوجلين ونيكولا كراوس عن تجارب حقيقية في العمل كمربيتين للأطفال لدى هذه الطبقة، لكنهما قدمتا الكتاب من خلال أسلوب يتسم بالرمزية التي تجمل شخصيات هذه الطبقة مجرد "نماذج"، وهو ما يذكرك على نحو ما بفيلم "الشيطان يرتدي أزياء شديدة الأناقة"، الذي حاول بدوره أن يكشف عن العالم الخلفي لصناعة الأزياء، بكل ما يحفل به من تناقضات شديدة القسوة، من خلال تجربة فتاة تعمل في بداية حياتها سكرتيرة لرئيسة تحرير مجلة شهيرة متخصصة في الأزياء، لتتعلم الكثير ليس فقط عن هذه الصناعة بل الأكثر عن الحياة ذاتها.وفتاتنا التي سوف تخوض التجربة في فيلم "يوميات مربية أطفال" هي آني برادوك، التي تخرجت لتوها في الجامعة وتقف حائرة في اختيار التخصص الذي سوف تعمل فيه، لكنها تميل إلى الأنثروبولوجيا والدراسات الاجتماعية، ولعل المتفرج سوف يتساءل بقدر غير قليل من السخرية الماكرة لماذا تنتاب بطلتنا هذه الحيرة، بينما تقوم بدورها الممثلة الجميلة ساكرليت جوهانسون، ففتاة على هذا القدر من الجمال لن تعدم وسيلة لتشق طريقها بسهولة، ليس في عالم علم الاجتماع وإنما في عالم السينما! وبعد مناقشات وجدال مع أمها (رونا ميرفي) التي تريد مستقبلا مزدهرا لابنتها في شركات التجارة والاقتصاد، تتقدم آني لاختبارات الوظائف في بعض هذه الشركات، لتجيب عن كل الأسئلة بسهولة، ما عدا سؤال واحد: "من هي آني برادوك؟".تكتشف آني إذن أنها لم تعرف نفسها بعد، أو فلتقل إنها لم تعرف إلا اليسير عن الحياة الحقيقية، وهذا ما تؤكده لها صديقتها لينيت (المغنية الشهيرة أليشيا كايز)، لتلعب الصدفة دورها في مسار حياتها، عندما تذهب إلى حديقة عامة لتتجول متأملة حياتها، لكنها تفاجأ بطفل في الخامسة من عمره قد يتعرض للأذى على نحو عارض، لتنقذه في اللحظة الأخيرة، وتظهر أمه السيدة إكس (لاورا ليني)، وعندما تعرف آني نفسها للأم تتصور مدام إكس أن الاسم هو "ناني"، ويعني بالإنجليزية "مربية أطفال"، لتعرض على بطلتنا على الفور العمل لديها في وظيفة مربية للطفل الصغير جراير (نيكولاس آرت).على النقيض من المشهد الافتتاحي شبه التسجيلي في المتحف الطبيعي، يأتي قسم العرض من دراما الفيلم متسما بقدر غير قليل من الفتور والاصطناع ولعلك سوف تسأل نفسك ماذا كان يحدث لو لم تذهب آني إلى الحديقة، بل هل كانت الحبكة سوف تمضي إلى الأمام لولا هذا التشابه اللفظي بين "آني" و"ناني"، كما أن من المستحيل على السيدة إكس، التي تنتمي إلى الطبقة الراقية من المجتمع، أن تختار مربية طفلها من خلال مقابلة عابرة في حديقة، وهى التي تملك أن تعلن بضعة سطور في جريدة، لتجد طابورا طويلا من المتقدمات من كل الجنسيات والأعمار. وإذا كنت رأيت فيلم "البهاء الأمريكي" لكاتبي السيناريو والمخرجين شاري بيرمن وروبرت بولشيني، الذي تميز بحس تسجيلي راقٍ عن حياة فنان كاريكاتير أمريكي، فسوف يدهشك الضعف الدرامي لهما في فيلم "يوميات مربية أطفال"، بسبب الاعتماد على المصادفات الملفقة من جانب، وتعمد تسطيح الشخصيات من جانب آخر إلى درجة الاختزال، وهو الاختزال الذي يبدو واضحا تماما في اختيار اسم مدام اكس لسيدة الطبقة الراقية، كما سوف يحمل رب الأسرة اسم مستر إكس (بول جاماتي)، وعلى نحو شديد المباشرة سوف يعلق الفيلم على شخصياته بأن الرجل في مثل هذه الأسرة لا يهتم إلا بعمله وجمعه أكبر قدر من المال، وسرقته لبضع لحظات يخون فيها زوجته، التي ترضى أن تضرب الصفح عن هذه الخيانة لأنها لا تريد أن "تطلق" رفاهية حياتها، وهكذا يبقى الابن وحيدا لتعتني به مربية الأطفال، التي يضطرها عملها إلى القيام بمهام أخرى من بينها الأعمال اليدوية الشاقة، ناهيك عن تعرضها لمغازلات ومضايقات رب الأسرة.وقد تكون في الفيلم بعض المشاهد الإنسانية مرهفة المشاعر، مثل العلاقة الحميمة الدافئة بين البطلة آني والطفل جراير، لكن ما يفتقدها المصداقية هو التحول المفاجئ من شقاوة الطفل المزعجة إلى ملائكيته الرقيقة، كما حاول الفيلم اصطناع علاقة عاطفية بين آني وجارها طالب الجامعة هايدن (كريس ايفانز)، لإضافة بعض التوابل الجماهيرية إلى الحبكة، لكن الفيلم لم يستفد كثيرا من هذه الشخصيات ذات البعد الواحد إلا لإعادة التأكيد مرة بعد أخرى على هجائه للطبقة المرفهة من المجتمع الأمريكي، مثل المشهد الذي جمع آني مع زملاء صديقها هايدن، الذين يرون مربية الأطفال في صورة نمطية باهتة، لترد عليهم بقسوة أنهم هم ذاتهم سوف يصبحون تنويعات أخرى على السيد والسيدة إكس: الأزواج الذين لا يهتمون بأسرهم، والزوجات الشرهات للاستهلاك.. وبالطبع سوف ينتهي الفيلم بموعظة أخلاقية، عن الأطفال الذين يحتاجون إلى حضن أسرهم الدافئ، لكن الفيلم الذي يحاول أن يكون "دراسة اجتماعية" عملية لبطلته آني يتناسى أن أغلب مربيات الأطفال في أمريكا هن مهاجرات فقيرات من أمريكا اللاتينية، تعانين الغربة مرتين: في مجتمع غريب، وطبقة غريبة، وهو ما لا يمكن أن يشعر به المتفرج أبدا إذا كانت مربية الأطفال هي سكارليت جوهانسون.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"