عادي
يؤكد عمق “البرانويا” في السينما الأمريكية

“الضباب” وحوش تأتي من الداخل

01:37 صباحا
قراءة 5 دقائق

للكاتب الروائي الأمريكي ستيفن كينج شعبية هائلة لدى القراء أو متفرجي السينما على السواء، فعلى الرغم من أنه لا يمكن اعتباره أديبا صاحب رؤية إبداعية أصيلة، فإن له أدواته التي يستطيع بها جذب القارئ، إلى عالمه كما يغري صناع الأفلام على اقتباس أعماله.

يمكنك أن تجد الملمح المميز لستيفن كينج في كلمة واحدة: الرعب.. لكنه الرعب الذي يستطيع أن يقدم تنويعات عديدة عليه، فهو رعب داخلي أو خارجي أو مزيج منهما معا، كما أن لكاتب السيناريو والمخرج، فرانك دارابونت تجربتين ناجحتين في الاقتباس عن روايات ستيفن كينج، كانت الأولى هي أكثرهما نجاحا والتي حملت عنوان الهرب من سجن شوشانك لتتلوها تجربة جيدة لكنها لم تحقق نفس القدر من النجاح وهي الميل الأخضر، وهو تعبير يقصد منه تلك المسافة التي يمشيها المحكوم عليه بالإعدام من زانزانته حتى غرفة تنفيذ الحكم.

كان الرعب في سجن شوشانك شديد الواقعية في تعبيره عن قسوة الظلم الذي يمارسه البشر على بعضهم البعض، وهذا ما احتواه أيضا الميل الأخضر لولا تحوله المفاجئ إلى ظواهر بعيدة عن الواقع أفسدت على الفيلم تماسكه، عندما خرجت الحشرات من فم السجين الذي يملك قدرات خارقة، وها هو دارابونت يقدم معالجته الثالثة عن أعمال ستيفن كينج في اقتباسه الرواية التي تحمل عنوان الضباب وهي الرواية التي تمزج بين الرعب الخارجي والداخلي معا، وإذا كان لك أن تلخص فكرتها في سطور قليلة فهي أن عاصفة غامضة اجتاحت مدينة صغيرة وجعلتها تلتف بضباب كثيف، تخرج منه كائنات متوحشة مجهولة، ليلجأ معظم سكان المدينة إلى المتجر، محاولين الاحتماء به والنجاة بحياتهم وهي نفس الفكرة الدرامية التي سبق لنا رؤيتها في أفلام عديدة مثل ليلة الموتى الأحياء أو ثلاثون يوما من الليل.

تعتمد هذه الأفلام جميعا على التفاعل بين الشخصيات المحاصرة، التي لا تعاني فقط من حصار خارجي خوفا من الوحوش، لكنه يتحول شيئا فشيئا إلى حصار من داخل النفس البشرية، حتى إن فيلم الضباب لا يعطي أهمية كبيرة للوحوش بقدر ما يمنح هذه الأهمية لصراعات النفس البشرية، يبدأ الفيلم بالبطل ديفيد درايتون (توماس جين) رسام الإعلانات للأفلام، تلمح من بينها في إشارة ذكية إعلانا لفيلم الرعب الشهير الشيء، حيث يعيش حياة هادئة مع زوجته ستيفاني كيلي كولينز لينتز وطفله الصغير بيللي (ناثان جامبيلي)، لكن هذا الهدوء يتبدد فجأة مع عاصفة عاتية تقطع الكهرباء وتدمر الممتلكات، بينما تبدو موجة غامضة من الضباب وكأنها تطفو فوق البحيرة القريبة لتتقدم نحو المدينة لتغطيها، وهكذا يقرر ديفيد أن يصحب طفله بيللي، وجاره برينت (اندريه براور) إلى المتجر، لشراء اللازم من المؤونة حتى تنجلي عاصفة الضباب.

سوف يكون المتجر بالطبع مزدحما بالعشرات من أهل المدينة الذين كانوا يفكرون بدورهم في توفير الغذاء لعدة أيام، وفجأة يقتحم المكان أحد الرجال وقد غطته الدماء، ليصرخ بأنه رأى كائنات متوحشة تظهر من الضباب لتفترس الأحياء، وبينما يزداد الضباب كثافة يحاول بعض الأشخاص الهروب من المتجر لنسمع صرخاتهم دون أن نرى ما يحدث لهم، ليقرر الجميع إغلاق أبواب المتجر والبقاء بداخله حتى ينجلي الأمر، وإن لم يكن من الواضح إذا ما كان بقاؤهم على هذا الحال سوف يستمر لساعات أو أيام، وفي الوقت الذي يذهب فيه ديفيد إلى الجانب الخلفي من المتجر ليحاول إصلاح مولد الكهرباء، يفاجأ بكائن متوحش يحاول اقتحام المكان. في البداية لا يصدقه بعض المحاصرين، غير أن أذرع اخطبوطية تمتد لتخطف ضحايا وتحولهم إلى أشلاء تسيل منها الدماء ثم تختفي مرة أخرى في الضباب الكثيف.

لعل البؤرة الدرامية للفيلم تكمن في انقسام الرأي بين المحاصرين حول تحليل وتقييم الموقف وطريقة الخروج منه، وسوف نجد أنفسنا أمام ثلاث جهات متصارعة، الأولى ديفيد الذي يدرك صعوبة الكارثة ويفكر في الخروج منها، والثانية برينت الذي لا يصدق وجود الوحوش ويرى أنها ليست إلا عاصفة سوف تمر كما مرت قبلها العواصف، أما الثالثة فهي المرأة كارمودي (مارسيا جاي هاردين) التي تبدو شديدة التزمت في معتقداتها الدينية، وفي الحقيقة أننا لن ندري على وجه اليقين إذا ما كانت مؤمنة حقا بما تقول أم أنها تسعى للسيطرة والهيمنة على الآخرين، بما يذكرك على نحو ما بالنزعات اليمينية المحافظة في الإدارة الأمريكية الراهنة، التي تزرع الخوف في نفوس الجماهير لتستطيع أن تتحكم فيهم. إن السيدة كارمودي تزعم أن الضباب والوحوش ليسا إلا نذيرا للبشر بسبب خطاياهم، وأن السبيل الوحيد للخلاص هو تقديم أضحية بشرية، وليس أنسب لذلك من وجهة نظرها أكثر من الطفل بيللي.

سوف تنهال المزيد من الكائنات المرعبة التي تظهر على الشاشة في أشكال مختلفة، تبدو في بعض اللقطات على حقيقتها خدعا سينمائية مكشوفة تم تنفيذها بالكومبيوتر، مما يفقد الفيلم بعض إقناعه وإن كان ما يفتقده حقا هو التركيز على الرعب الداخلي، فكأن دارابونت لم يستطع مقاومة إغراء تقديم هذه الوجبة السينمائية من وحوش الأفلام، التي سوف تقاومها جبهة ديفيد وأعوانه بكل الوسائل، ولكن المتفرج سوف يقشعر بدنه بسبب التصوير شديد الدموية والعنف للأشلاء البشرية، وفي لمحة خاطفة في أحد المشاهد، يلقي الفيلم إليك تفسيرا حول ما يحدث من كوارث، ففي قاعدة عسكرية قريبة تجري تجارب سرية أدت إلى حدوث هذه العاصفة الغامضة، وخروج الكائنات المتوحشة من البحيرة التي تصاعدت منها موجات الضباب، ويعترف أحد الجنود بأن تلك الكارثة كانت خطأنا.

يمضي الفيلم بشكل عابر على هذا التفسير الذي كان من الممكن التوقف عنده، لتتأرجح الأحداث بين صراعات المحاصرين في داخل المتجر، ومحاولة ديفيد وأنصاره البحث عن مخرج ليطوف في المدينة التي اجتاحها الدمار على نحو مروع، لتنتهي الأحداث بنهاية مغرقة في القتامة، سوف أترك المتفرج ليراها بنفسه.

جوهر الخلل في فيلم الضباب أن شخصياته مرسومة على نحو متعجل، بخطوط خشنة متسرعة، لذلك فهي تميل إلى النمطية مما أفقد الحبكة الدرامية إمكانية التطور على نحو أكثر تماسكا، خاصة أنه لابد في هذا النوع من الأفلام من الإمساك بذلك الخيط الرقيق الذي يصل ويفصل في آن واحد بين واقعية ما تراه على الشاشة وسيريالية كونه كابوسا لا يحتمل، لكن دارابونت من جانب آخر نجح في أن يمنح الفيلم طابعا شبه تسجيلي، خاصة في استخدام الفيلم الخام شديد الحساسية الذي يؤدي عند طبعه إلى صورة ذات حبيبات ظاهرة، تزيد من كثافة الإحساس بوجود الضباب، كما أنه استطاع استخدام الصمت في مشاهد عديدة، وهو الأمر الذي لا يبدو معتادا في أفلام الرعب التقليدية التي تعتمد على صخب شريطي الصورة والصوت معا، وفي التحليل الأخير فإن فيلم الضباب يؤكد عمق ظاهرة البارانويا في السينما الأمريكية المعاصرة، حيث الكائنات المتوحشة تأتي من الداخل كما في فيلم الحشرة أو من الخارج كما في حادثة كلوفر فيلد، لكن فيلم الضباب يزيد على هذه البارانويا سؤالا حول إذا ما كان البشر ذاتهم أكثر وحشية من الوحوش.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"