الصدق رأس الفضائل

مكارم الأخلاق
03:29 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. رشاد سالم *

لئن كانت كلمة «الصدق» سهلة اللفظ، فإنها في الحقيقة كبيرة المعنى، لما لها من الآثار العظيمة في حياة الفرد، بل في حياة الأمم، والشعوب، ذلك أن الصدق في حقيقته ملَكة نفسية سامية، وقوة إرادة عظيمة، يستطيع الإنسان أن يبرهن به عن حسن خلقه بلا تكلف منه. وتبدو لنا حاجة المجتمع الإنساني إلى خلق الصدق حينما نلاحظ أن شطراً كبيراً من العلاقات الاجتماعية والمعاملات الإنسانية يعتمد على شرف الكلمة، ولولا الثقة بشرف الكلمة لتفككت معظم الروابط الاجتماعية بين الناس.
وكيف يكون لمجتمع ما، كيان متماسك وأفراده لا يتعاملون فيما بينهم بالصدق، بل كيف يكون لمثل هذا المجتمع رصيد من ثقافة، أو تاريخ، أو حضارة؟
إن الصدق يرمز إلى الإنسان الكامل الذي يسيطر عقله على هواه، ويشح بنفسه عن الكذب، والخداع، والدجل، والرياء. ولو اتخذ الناس الصدق منهاجاً لحياتهم لذهبت الفوضى، وتلاشت المشاكل التي مصادرها وأساسها الكذب، ودسّ الدساسين، لأن الصدق دعامة الفضائل، وعنوان الرقي، ودليل الكمال، ومظهر من مظاهر السلوك النظيف، وهو الذي يضمن رد الحقوق، ويوطد الثقة بين الأفراد والجماعات.
نعم، إنه ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني، وفضيلة من فضائل السلوك ذات النفع الحضاري العظيم، وإن نجاح الأمم في أداء رسالتها يعود إلى جملة ما يقدمه بنوها من أعمال صادقة، فإن كانت ثروتها من صدق العمل كبيرة سبقت سبقاً بعيداً، وإلا سقطت في عرض الطريق، ذلك أن التهريج، والخبط، والادعاء، والهزل لا تغني فتيلاً عن أحد.
وحسبنا دليلاً على أهمية الصدق أنه من صفات الله عز وجل،«قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».(آل عمران، ٩٥)، و«اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً». (النساء، ٨٧)، كما أنه من صفات النبي الأساسية، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم، اشتهر بين قومه بالصادق
الأمين، لكل هذا أمر الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ». (التوبة، ١١٩).
من هنا، فإن هدي الإسلام الذي تغلغل في كيان المسلم علّمه أن الصدق رأس الفضائل، أو رأس مكارم الأخلاق، وهو بالتالي يهدي إلى البر المفضي بصاحبه إلى الجنة، في حين يهدي الكذب إلى الفجور المفضي بصاحبه إلى النار. يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر
يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً».. إلخ الحديث.
وبديهي أن المسلم الصدوق الذي بلغ هذه المرتبة الرفيعة لا يغش، ولا يخدع، ولا يغدر، ذلك أن
مقتضى الصدق النصيحة، والصفاء، والإنصاف والوفاء، لا الغش، والخديعة، والإجحاف، والغدر.
والمسلم الذي يريده الإسلام هو الذي جمع بين حسن العبادة، وصفاء النفس، وحسن المعاملةن فطابقت سريرته علانيته، وصدق فعله قوله. وبين هذا المسلم وأمثاله يرتفع صرح المجتمع الإسلامي الراشد القوي، فإذا هو، كما وصفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «كالبنيان يشد بعضه بعضاً». وهذا هو المجتمع النظيف المتماسك الراقي الجدير بحمل رسالة الله للناس، ذلك أن العمل الصادق هو العمل الذي لا ريبة فيه، لأنه وليد اليقين، ولا هوى معه لأنه قرين الإخلاص، ولا يموج عليه لأنه نبع من الحق.
إن الاستمساك بالصدق في كل شأن، وتحريه في كل قضية، والمصير إليه في كل حكم، دعامة ركينة في خلق المسلم، وصبغة ثابتة في سلوكه.
ولهذا يوصي الإسلام بأن نغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال، حتى يشبوا عليها، وقد ألفوها في أقوالهم كلها، ويكفي أن المعالم الأولى للجماعة المسلمة تمثلت في صدق الحديث، ودقة الأداء، وضبط الكلام.
ولم لا؟ والصدق أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل، ومعين.
وقد أمر الله تعالى رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، «وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً».(الإسراء، ٨٠)، وأخبر عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين،«وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ».(الشعراء: ٨٤).
وبشّر عباده بأن لهم عنده قدم صدق، ومقعد صدق،
«أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ» (يونس: ٢).
وليس هناك صفة تكفل استقرار المجتمع، وتضمن الثقة بين الأفراد مثل الصدق، لذلك اعتبر أساساً من أسس الفضائل التي تبنى عليها المجتمعات، وجعل عنواناً لرقي الأمم، وما فقدت هذه الصفة إلا حل محلها عدم الثقة، وفقدان التعاون، فالصدق من ضروريات المجتمع الذي ينبغي أن ينال حظاً عظيماً من العناية في الأسرة، والمدرسة، لأنه يحصل منه الخير الكثير، وبه ترد الحقوق، وبه يحصل الناس علي الثقة فيما بينهم،
لهذا دعا الله سبحانه للتخلق به، فقال مخاطباً المؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ».(التوبة،١١٩). و«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً». (الأحزاب، ٧٠).

* مدير الجامعة القاسمية بالشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"