النجم الثاقب

02:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.
يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.
قال تعالى «وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِب إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ».
ورد هذا القسم في فاتحة سورة الطارق، وهي السادسة والثلاثون في ترتيب نزول السور والسادسة والثمانون في المصحف الشريف. وهي سورة مكية وآياتها سبع عشرة وتشترك في خصائص سور هذا الجزء التي تمثل طرقات متوالية على الحس، وصيحات بقوم غارقين في النوم..تتوالى على حسهم تلك الطرقات تناديهم: تيقظوا، تنبهوا، انظروا، تفكروا، تدبروا: إن هناك إلهاً وحساباً وجزاء، وعذاباً شديداً، ونعيماً كبيراً.
وبين المشاهد الكونية، والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق، دقيق ملحوظ، يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني.
سبحانه وتعالى أقسم بالسماء ونجومها المضيئة، وكل منها آية من آياته الدالة على وحدانيته، وسمى النجم طارقاً، لأنه يظهر بالليل بعد اختفائه بضوء الشمس، فشبه بالطارق الذي يطرق الناس، أو أهله ليلاً، قال الفراء: ما أتاك ليلاً فهو طارق، وقال الزجاج والمبرد: لا يكون الطارق نهاراً. وكثر في القرآن الحلف بالسماء وبالشمس، وبالقمر وبالليل، لأن في أحوالها وأشكالها ومسيرها ومطالعها ومغاربها، سمات القدرة وآيات الإبداع والحكمة.
وهذا القسم يتضمن مشهداً كونياً وحقيقة إيمانية. وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثنى بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني: «وما أدراك ما الطارق» وكأنه أمر وراء الإدراك والعلم. ثم يحدده ويبينه بشكله وصورته «النجم الثاقب» الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ. وهذا الوصف ينطبق على جنس النجم. ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص، ولا ضرورة لهذا التحديد؛ بل إن الإطلاق أولى. ليكون المعنى: والسماء ونجومها الثاقبة للظلام، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء.
يكون لهذه الإشارة إيحاؤها حول حقائق السورة وحول مشاهدها الأخرى، يقسم بالسماء ونجمها الثاقب: أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب «إن كل نفس لما عليها حافظ» وجواب القسم في سورة الطارق والمقسم عليه هاهنا حال الإنسانية، والاعتناء بها، وإقامة الحفظة عليها، وأنها لم تترك سدى، فأقسم سبحانه أنه ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها وقولها، ويحصى ما تكتسب من خير أو شر. وخص النفس هنا لأنها مستودع الأسرار والأفكار وهي التي يناط بها العمل والجزاء.
ويلقى النص إيحاءه الرهيب؛ حيث تحس النفس بأنها ليست أبداً في خلوة، وإن خلت، فهناك الحافظ الرقيب الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور، كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر..وصنعة الله وحدة متناسقة في الأنفس والآفاق.
وفي ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب»، (الطارق، الآيات5-7) فلينظر الإنسان من أي شيء خلق، وإلى أي شيء صار، إنه خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل، وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية. وكان هذا يعد سراً مكنوناً في علم الله لا يعلمه البشر، حتى كان القرن العشرين؛ حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته.
وما وراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب، في خصائص الأجهزة والأعضاء، تشهد كلها بالتقدير والتدبير، وتشى باليد الحافظة الهادية المعينة وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق، كما تعهد للحقيقة التالية حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون.
وفي قوله عز وجل: «إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر» معنى أن الله الذي أنشأه ورعاه لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت، وإلى التجدد بعد البلى، تشهد النشأة الأولى بقدرته، كما تشهد بتقديره وتدبيره، فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثاً إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل. وكما ينفذ الحافظ إلى النفس المنفعة بالسواتر، كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من القوة والنصير.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"