بما تبصرون ومالا تبصرون

02:56 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.
يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.
قال تعالى:«فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ». ورد هذا القسم في سورة الحاقة، وهي الثامنة والسبعون في ترتيب النزول والتاسعة والستون بالمصحف الشريف، وهي مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية.
وقوله «فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون» إشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسراراً أخرى لا يبصرها ولا يدركها. وتتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة، فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه، ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود، فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون: الخلافة في الأرض.
قال مقاتل: بما تبصرون من الخلق وما لا تبصرون منه، وقال قتادة: أقسم بالأشياء كلها بما يبصر منها وما لا يبصر، وقال الكلبي: تبصرون من شيء وما لا تبصرون من شيء وهذا أعم قسم وقع في القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات والدنيا والآخرة، وما يرى وما لا يرى، ويدخل في ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس، والعرش والكرسي، وكل مخلوق. وكل ذلك من آيات قدرته وربوبيته، وهو، سبحانه، يصرف الأقسام كما يصرف الآيات، فضمن هذا القسم أن في كل ما يرى وما لا يرى آية، ودليل على صدق رسوله، وأن ما جاء به هو من عند الله وهو كلامه.
ويذكر ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن» أن من تأمل المخلوقات، ما يراه منها وما لا يراه، واعتبر ما جاء به الرسول بها ونقل فكرته في مجاري الخلق والأمر، ظهر له أن هذا القرآن من عند الله وأنه كلامه وهو أصدق الكلام، وأنه حق ثابت، كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما قال تعالى:«فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون»، الذاريات: 23، أي إن كان نطقكم حقيقة، وهو أمر موجود لا تمارون فيه ولا تشكون، فهذا ما أخبرتكم به من التوحيد والمعاد والنبوة حق، كما في الحديث «إنه لحق مثل أنك هنا» فكأنه سبحانه يقول: إن القرآن حق كما أن ما يشاهدون من الخلق وما لا يشاهدونه حق موجود، بل لو فكرتم فيما تبصرون وما لا تبصرون، لدلكم ذلك على أن القرآن حق، ويكفي الإنسان من جميع ما يبصره، وما لا يبصره بعينه، ومبدأ خلقه ونشأته، وما يشاهده من أحواله ظاهراً وباطناً، ففي ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب، وثبوت صفاته، وصدق ما أخبر به رسوله، وما لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه.
ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال:«إنه لقول رسول كريم». وهذا الرسول البشرى محمد، صلى الله عليه وسلم، وفي إضافته إليه باسم الرسالة أبين دليل أنه كلام المرسل، فمن أنكر أن يكون الله تكلم بالقرآن، فقد أنكر حقيقة الرسالة، ولو كانت إضافته إليه إضافة إنشاء وابتداء لم يكن رسولاً.
وبين سبحانه كذب أعدائه وبهتهم في نسبة كلامه تعالى إلى غيره، وأنه لم يتكلم به بل قاله من تلقاء نفسه، كما بين كذب من قال «إن هذا إلا قول البشر»، المدثر:25، فمن زعم أنه قول البشر فقد كفر وسيصليه الله «سقر».
ثم أخبر سبحانه أنه تنزيل من رب العالمين، وذلك يتضمن أموراً: أحدها أنه تعالى فوق خلقه كلهم، وأن القرآن نزل من عنده. والثاني، أنه تكلم به حقيقة لقوله: «من رب العالمين».
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"