«فَنَظِرةٌ إلى مَيْسَـرَة»

02:46 صباحا
قراءة دقيقتين

د.إبراهيم علي المنصوري *

تهدف تشريعات الإسلام إلى تحقيق مقاصد عظيمة، فلكل باب من أبواب التشريع مقصد، ومن هذه المقاصد: تحقيق النفع العام للمجتمع المسلم، من خلال بناء منظومة النفع القائم على التسامح والتعاضد والتكافل. قال الله تبارك وتعالى: «وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». فالمعاملات المالية بين أفراد المجتمع من أهم المحطات التي يُختبر فيها المسلم في قدرته على التسامح والعطاء.
وقوله جل شأنه «فَنَظِرةٌ إلى مَيْسَرَة» يهدينا للوصول إلى أرقى وأصدق معاني العطاء والتسامح، وهو التصدق بالدَّيْنِ على مَدِينِهِ «وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ»، فيمتلئ قلب ذي الحاجة طمأنية وتستقر نفسه، مما يرى أثره على أهله وعياله، فالدَيْن يقهر الرجال، كما بين نبينا صلى الله عليه وسلم، وأرشدنا أن نستعيذ من غلبة الديْن وقهر الرجال.
وفي قوله جل شأنه أيضاً، إشارة إلى أن صنيع الدائن الذي يتصدق بدينه على المعسر ينتظره خير وكرم من الله آتٍ لا ريب. ومن اللطائف في هذا السياق أن القرض الحسن أعظم أجراً من الصدقة؛ إذ كون الصدقة حين تُعطى ينقطع الأمل من عودتها فلا تنشغل النفس بها، فيتحصل على أجرها مرة واحدة، أما القرض الحسن فيكون القلبُ متعلقاً به، ولا تنفك نفسك عن حب المال ترجو أن يعود إلى ذمتك كلما تذكرته، فتصبر فتأخذ ثوابه كل مرة تهفو إليه نفسك، وكلما عظُم الدَيْن عظُمت المثوبة وجَمُل الجزاء من الله حين تتصدق به على المَدِين.
وعلى النقيض من ذلك، حين يُفَوِّت المرء فهم تلك المعاني وإدراك الفوائد الجليلة التي تشير إليها الآية الكريمة، نجد من أَعْمَتْهم الدنيا، فلم يُبْصروا الرحمة في نفوسهم وتَسللت الشفقة من صدورهم، فيتفننون في إذلال المَدِين ذي الفاقة، فيجازيهم الله على صنيعهم بمحق بركة أموالهم وزوالها.
إن من أجَلِّ مقاصد الإسلام حفظ كرامة الإنسان، وصيانة عِرضه «ولقد كرمنا بني آدم»، وإن ورد النهي عن صفع الوجه، فالنهي عن استنزاف ماء الوجه أشد، وما يكون ذلك إلا من قهر الإنسان بدَيْنه. وسفك كرامته أشد، لعمر الله، من سفك دمه.
ولله الحمد أنْ مَلأ الخير نفوس الناس في مجتمعاتنا، فنماذج الرحمة والشفقة تُرى كل يوم في أناس اهتموا لكفاية حاجات المحتاجين، وإقالة عثرات المتعثرين، أولئك الساعين إلى إقامة مقاصد الدين في حفظ كرامة المعسرين غايتهم في ذلك رضوان الله والبركة في أموالهم وحياتهم.
وعندما يكون المال عصب حياة الإنسان، ومُعينه على قضاء حاجاته، يكون الاختبار فيه صعباً، والصابر في بذل المال كالمجاهد الصابر في بذل النفس، ولقد اشترى الله من المؤمنين أموالهم وأنفسهم لقاء ثمن أجمل مما بذلوه.
وهنا رسالة نقدمها لإدارات المصارف الإسلامية بضرورة تطبيق مبدأ «فَنَظِرةٌ إلى مَيْسَرَة» عندما تُلجئ الحاجة متعامليها، لا سيما وقت الطوارئ، فيعجزوا عن سداد أقساطهم، أن يُنْظِروهم ويخففوا عنهم، وإن تطلب الأمر إعادة جدولة ديونهم وزيادة مدتها دون زيادة في أصل الدين، فهي من الأهداف النبيلة التي أسست من أجلها تلك المصارف.

* أستاذ الاقتصاد والمصارف الإسلامية
المساعد بجامعة الشارقة
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"