الرياح

القسم الإلهي
02:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.

يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.

قال تعالى: «وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ».

ورد هذا القسم في فاتحة سورة الذاريات، وهي السابعة والستون في ترتيب النزول، والحادية والخمسون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ستون.

تعددت آيات القسم في هذه السورة المكية، وهي بافتتاحها على هذا النحو ثم بسياقها كله، تستهدف أمراً واضحاً، وهو ربط القلب البشري بالسماء، وتعليقه بغيب الله المكنون، فهي تبدأ بذكر قوى أربع من أمر الله في لفظ مبهم الدلالة يوقع في الحس للوهلة الأولى أنه أمام أمور ذات سر.

ويقول ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»: أقسم بالذاريات، وهي الرياح تذرو المطر، وتذرو التراب، وتذرو النبات إذا تهشم، كما قال تعالى: «فأصبح هشيماً تذروه الرياح»، (الكهف /‏ 45)، أي تفرقه وتنشره، ثم بما فوقها، وهي السحب الحاملات وقراً، أي: ثقلاً من الماء، وهي روايا الأرض، يسوقها الله سبحانه على متون الرياح، كما في جامع الترمذي من حديث الحسن عن أبي هريرة قال: بينما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جالس في أصحابه، إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله، صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما هذا؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذا العنان، هذه روايا الأرض، يسوقها الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه، ولا يدعونه».

ثم أقسم سبحانه بما فوق ذلك، وهي «فالجاريات يسراً»، وهي النجوم التي من فوق الغمام، و«يسراً» أي: مسخرة مذللة منقادة، وقال جماعة من المفسرين: إنها السفن تجري ميسرة في الماء جرياً سهلاً.

وأقسم سبحانه بهذه الأمور الأربعة لمكان العبرة والآية، والدلالة الباهرة على ربوبيته ووحدانيته وعظم قدرته، ففي الرياح من العبر هبوبها وسكونها، ولينها وشدتها، واختلاف طبائعها وصفاتها ومهابها وتصريفها، وتنوع منافعها، وشدة الحاجة إليها، وللمطر خمسة رياح: ريح تنشر سحابه، وريح تؤلف بينه، وريح تلقحه، وريح تسوقه حيث يريد الله، وريح تذرو أمامه وتفرقه، وللنبات ريح، وللسفن ريح، وللرحمة ريح، وللعذاب ريح، إلى غير ذلك من أنواع الرياح. وهي أقوى خلق الله كما روى الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدة الجبال، وقالوا: يا رب، هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالوا يا رب، هل من خلقك شيء أشد من الحديد. قال: نعم النار، قالوا: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال نعم، الماء، قالوا: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، قالوا: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم: ابن آدم، تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله»، رواه الإمام أحمد في مسنده.

يقول محمد هشام الشربيني في كتابه «بهذا أقسم الله»: أما الملائكة وتقسيمها للأمر، فإن الرزق من هذه القسم. ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى. يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق الأربع على: «إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع». ووعد الله الناس أنه مجازيهم بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وأنه إذا أمهلهم الحساب في الأرض، فليس بمهمل حسابهم في الآخرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"