اللحظة الخطرة

03:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

تتطلب اللحظة الكثير من الانتباه والأسئلة، بحكم كونها لحظة يصعب على الكثيرين أن يستوعبوها، أو يدركوا خلفياتها وجذورها، وهي مشحونة بأشياء خطرة، وبأسباب القلق على المستقبل.

هذه اللحظة المتوجة بما يسمى «صفقة القرن» لم تفاجئني، وكنت منتظراً أن تحدث في عهد اليمين المحافظ الجديد في زمن الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن، وإثر سقوط بغداد، وبدء الانهيارات الكبرى في بلدان عربية مهمة في زمن ما سمي بالربيع العربي، وتنامي تشوهات الحياة السياسية العربية، وشلل مؤسسة النظام الإقليمي العربي (الجامعة العربية)، وارتفاع منسوب الغطرسة «الإسرائيلية» واستفحال نفوذ غلاة التطرف الصهيوني الاستيطاني والمسلح، فضلاً عن أزمة مستفحلة في نظام سياسي فلسطيني فقد الرؤية الاستراتيجية، وبات عبئاً على شعب يعاني الإقصاء الشامل والحصار والإهانة وانتهاك حقوقه المشروعة.

هذه اللحظة تأجلت ولادتها، حتى تكتمل أركانها، وتتوفر الحاضنة الجريئة التي تملك شغف المقامرة والمغامرة، وتختزن في عقلها أسطورة لاهوتية تسعى منذ قرون لتنفيذ مشروعها المتعلق ب«الخلاص اليهودي» من خلال عودة المسيح، عليه السلام. وقد جاءت هذه اللحظة في عهد إدارة الرئيس ترامب، وطاقمه الذي يقوده نائبه، مايك بينس، الذي ترترع في بيئة دينية محافظة، وانتمى إلى التيارات الإنجيلية اليمينية المتطرفة، ونشط في تنظيماتها الأصولية، والتي تعتقد أن «وعد الله، لشعبه المختار» لا يسقط بالتقادم، وأن أهم شروط العودة الثانية للمسيح، هو «استرجاع» أو «نقل» الجماعات اليهودية من أوروبا وأمريكا وإفريقيا وروسيا وغيرها، إلى فلسطين.

وقد أدت هذه العقيدة التي انتشرت في القرن السادس عشر، إثر حركة الإصلاح الديني (البروتستاتنية)، إلى قبول الجماعات اليهودية في عدد من الدول الأوروبية، وحصلت على وعود بحريّة ممارسة عباداتها بعد أن ظلت بريطانيا خالية من اليهود من نهاية القرن السادس عشر، ولم يحصل اليهود على حقوق المواطنة إلاّ ابتداء من الربع الأول في القرن الثامن عشر.

ولم تسمح بريطانيا لأعضاء الجماعات اليهودية بتوليِّ المناصب في مجالس البلديات أو في الوظائف المدنية حتى عام 1845، ولم يصل إلى البرلمان الإنجليزي عضو يهودي واحد حتى عام 1858، وكان أول وزير يهودي إنجليزي هو هربرت صمويل عام 1904.

وكذلك الحال في روسيا الأرثوذكسية، حيث لم يسمح بدخول المدارس الروسية حتى عام 1804، ولم يسمح لهم بالعمل في حقل المحاماة حتى عام 1864.

وفي فرنسا طُرد اليهود في نهاية القرن الرابع عشر، أما في إسبانيا، فقد عاش اليهود عصرهم الذهبي في أثناء الحكم العربي والإسلامي، لكنهم طُردوا أو أُجبروا على التنصر، فور سقوط الحكم العربي الإسلامي في الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر.

هذه اللحظة هي اللحظة المواتية لإعمال سياسة أمريكية جديدة تطرح مفهوم المجتمع الدولي، وطرح التعاون الدولي الرامي إلى خلق عالم أكثر سلماً جانباً، على حد قول الرئيس الألماني في المؤتمر الدولي للأمن في ميونيخ في فبراير 2020، ويتراجع فيها الحس بالمسؤولية عن السلم والأمن الدوليين، لصالح مقولة فاسدة مضمونها أن: «القوة تصنع الحق» والمناقضة تماماً للقانون الدولي، وتنفيذاً لحلم صهيوني أصولي إنجيلي متطرف مبني على أسس حربية لاهوتية أسطورية، ولا علاقة له بقانون ولا حقوق ولا عدالة ولا تقرير مصير بشر.

إنها لحظة «تدمير خلاق»، على حد قول السياسي اليهودي البارز مارتن أنديك، يمزق التوافق الدولي حول السلام في الشرق الأوسط، ويلغي قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويهز كل معاهدات ومبادرات السلام، ويُسلِّم «إسرائيل» مفاتيح المنطقة، ويعطي الشعب الفلسطيني عاصمة عائمة على «زوارق مطاطية في البحر المتوسط».

نعم، هذه لحظة يتغوَّل فيها الفِعل المتطرف والمنفلت من كل مسؤولية، الفِعل القسري التركيعي والقمعي والاحتلالي، ومن المؤكد، أن له توابعه وزوابعه.

إن إعطاء «إسرائيل» الضوء الأخضر، لتحطيم قواعد القانون الدولي، وأُسس عملية السلام التي حظيت بتوافق دولي، سيؤدي إلى إطلاق أيادي غلاة التطرف الصهيوني والإنجيلي اللاهوتي، إلى العربدة الخطرة، وعندها لن تستطيع أمريكا، في إدارات قادمة، السيطرة على سلوك «إسرائيل» في المستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"